اقتصاد الصين 2049: كيف يعبر المارد الأصفر العقبات العشر؟

ذات مصر
  هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ولا مبالغة في أن يعتبرها البعض القطب الاقتصادي الثاني المواجه للقطب الأمريكي، فقد شهدت قوة الصين تصاعدًا لافتًا خلال العقود الأخيرة لتصبح أعتى منافس للولايات المتحدة داخل الاقتصاد العالمي، ورغم القوة الحاضرة للصين فإن مستقبلها كقوة اقتصادية بعد 30 عامًا يثير التساؤلات، خاصة أنها تواجه تحديات داخلية ومحلية قد تُضعِف من منافستها للقوى الاقتصادية على الساحة الدولية. وفي هذا الصدد، أصدر مركز بروكنجز كتاب “الصين 2049: التحديات الاقتصادية لقوة عالمية صاعدة”، في شهر مايو/أيار من العام الحالي 2020، والذي يُقدِّم فيه 3 من الاقتصاديين البارزين تحليلاتهم حول التحديات التي تواجه القوة الاقتصادية للصين، وهم يبينج هوانج أستاذ الاقتصاد والتمويل في المدرسة الوطنية للتنمية ومدير معهد التمويل الرقمي بجامعة بكين، ويانج ياو أستاذ وباحث في المركز الصيني للبحوث الاقتصادية (CCER) والمدرسة الوطنية للتنمية (NSD) بجامعة بكين، وديفيد دولار زميل أول في مركز الصين بمعهد بروكينجز.

التجربة الصينية في النمو الاقتصادي

قبل 70 عامًا، عندما تأسست جمهورية الصين الشعبية، كان متوسط الدخل للفرد الصيني البالغ بالكاد يزيد على خُمس المتوسط العالمي، أما اليوم، فالشخص نفسه قادر على التمتع بمستوى معيشة المواطن العادي في العالم، وصارت الصين الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأكبر مُصدِّر. لم يتحقق هذا الوضع ببساطة من خلال زيادة عدد السكان، ولكن عبر انتهاج الصين لتحول هيكلي هائل، ونتيجة لذلك صارت واحدة من أكثر شبكات الإنتاج اكتمالاً في العالم، بعد أن اتبعت –في تجربتها للإصلاح الاقتصادي قبل نحو 40 عامًا- مبادئ الاقتصاد الكلاسيكي الجديد، والتي تهدف إلى تحقيق وفورات عالية واستثمارات وتراكم رأس المال البشري والتقدم التكنولوجي والتصنيع، كما تمتّعت بالتركيبة السكانية والبيئات الدولية المواتية خلال فترة النمو المرتفع. وتحددت الدوافع الرئيسة في دفع الاقتصاد الصيني نحو النمو خلال العقود الأخيرة في التحضير الذي جاء خلال فترة التخطيط، والتركيبة السكانية المواتية، والادخار العالي وتراكم رأس المال، وزيادة الكفاءة.

التحولات الداخلية في الصين

  • نجحت الصين في تحقيق قفزات في التنمية الاقتصادية انعكست على الأفراد والشركات، وشهدت خلال تجربتها تحولات قوية داخل الاقتصاد المحلي، إلا أن هذه التحولات من شأنها أن تشهد تحديات على مدى العقود الثلاثة المقبلة، وذلك كما هو مبين على النحو التالي:
  • تغير التركيبة السكانية:
  • يعتبر التحول الديموجرافي عاملاً أساسيًّا في تفسير التطور غير المتوقع للاقتصاد الاجتماعي الصيني على مدار الأعوام الأربعين الماضية، فبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، دخلت التركيبة السكانية في الصين مرحلة جديدة، فانخفض معدل الوفيات بقدر كبير وظل معدل المواليد مرتفعًا بسبب التحسن في الرعاية الصحية ومستويات المعيشة، ونتيجة لذلك، كان معدل النمو الطبيعي للسكان مرتفعًا بنحو مفرط.
  • في السبعينات والثمانينات، أدى تنفيذ سياسات تنظيم الأسرة الصارمة إلى تسريع التحول الديموجرافي، فانتقل من نمط الولادات المرتفعة وانخفاض الوفيات والنمو السكاني المرتفع إلى نمط المواليد المنخفض، وانخفاض معدل الوفيات، وانخفاض النمو السكاني.
  • شكّل تزايد عدد السكان في سنّ العمل والانخفاض المستمر في نسبة الإعالة الإجمالية للسكان بنية ديموجرافية “موجهة نحو الإنتاج”.. كان مثل هذا الهيكل الديموجرافي المواتي اقتصاديًّا يتماشى مع إطلاق سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين، غير أن هذا الهيكل يواجه تحديًا متمثلاً في الاتجاه المتصاعد لسن الشيخوخة، ما سيرفع نسبة الإعالة مجددًا.
  • التوجه نحو الاقتصاد الأخضر 2049:
  •  يتميز نمط النمو في الصين بتأثيرات “ملاذ التلوث” التي ظهرت بعد وقت قصير من انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، كما تظهر بصمات الكربون في الصناعات التصديرية الرئيسة في الصين.
  • وقد قدّر البنك الدولي عام 2013 أن تكاليف التدهور البيئي واستنفاد الموارد في الصين اقتربت من 10% من الناتج المحلي الإجمالي، منها تلوث الهواء بنسبة 6.5%، وتلوث المياه بنسبة 2.1%، وتدهور التربة بنسبة 1.1%.
  • سرعان ما صارت الصين أكبر دولة في العالم ينبعث منها ثاني أكسيد الكربون، كما أنها واحد من البلدان الأربعة التي يُتوقع أن تتعرض لأكبر ضرر من ارتفاع مستوى سطح البحر في ظل نظام تغير مناخي شديد.
  • في المقابل، تشمل أهداف التنمية الوطنية للصين بحلول عام 2050 تحسين البيئة وفقًا لمعايير منظمة الصحة العالمية (WHO)، كما بذلت الصين جهودًا كبيرة لتحسين تأثيرها البيئي، غير أنها لا تزال تواجه تحديات خطيرة.
  • ويستلزم نجاح الصين في التحول نحو الاقتصاد الأخضر جهودًا قوية لتحويل نموذجها الاقتصادي إلى نموذج اقتصادي دائري، يحافظ على الموارد ويستخدمها الاستخدام الأمثل، بحيث يكون كل من الهيكل الصناعي والنمو وأنماط الاستهلاك أكثر انسجامًا مع أهداف توفير الطاقة والموارد والحفاظ على البيئة.
[caption id="attachment_116918" align="aligncenter" width="1000"] الرئيس الصيني[/caption]
  1. بناء نظام مالي حديث لمستقبل الصين: عندما قررت القيادة الصينية تحويل تركيز سياستها من الصراع الطبقي إلى تنمية الاقتصاد عام 1978، كانت لدى الصين مؤسسة مالية واحدة فقط، وهي بنك الشعب الصيني (PBOC)، والذي عمل كبنك مركزي وبنك تجاري، واستحوذ على 93% من إجمالي الأصول المالية للبلاد.ولكن بمجرد بدء الإصلاح الاقتصادي، تحركت السلطات بسرعة كبيرة لإنشاء مؤسسات وأسواق مالية جديدة.. واليوم أصبح لدى الصين نظام مالي ضخم يُظهر 3 سمات مميزة: أحجام مالية ضخمة، وضوابط حكومية شاملة، وإطار تنظيمي غير ملائم.تمثل السمة الثالثة تحديًا داخليًّا للاقتصاد الصيني، ويُعد الإطار التنظيمي منفصلاً بطبيعته، أي أن جهة تنظيمية واحدة مسؤولة عن قطاع واحد، وتُركِّز حصريًّا على تنظيم المؤسسات لا الوظائف. يواجه هذا النظام المالي انتقادات قوية كونه يحتوي على سياسات مالية قمعية، وتشكو الشركات الخاصة من سياسة التمييز التي جعلت الحصول على تمويل خارجي أمرًا صعبًا عليها، وأحيانًا ما تكون السياسات المالية القمعية، التي تنتهجها الصين، مصدرًا للجدل في المناقشات حول استثماراتها الخارجية المباشرة.
  2. إصلاح المالية العامة: تلعب المالية العامة –بطبيعة الحال- أدوارًا متعددة في أي بلد، ومنها تقديم المنافع العامة وإعادة توزيع الدخول وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتحفيز النمو. بالإضافة إلى ذلك، يلعب التمويل العام في الصين دورًا رئيسًا في الحفاظ على الاستمرارية السياسية والاستقرار. غير أنه مع شيخوخة السكان، سوف تواجه المالية العامة في الصين تحديات خطيرة في العقود الثلاثة المقبلة. حيث سينعكس معدل النمو المنخفض للسكان على النمو المنخفض للقوى العاملة والذي يظهر بدوره في تباطؤ نمو الاقتصاد مستقبلاً. وبدوره يؤثر النمو الاقتصادي المتباطئ في نمو الإيرادات الضريبية لأن العديد من الضرائب يعتمد على الإنتاج. وعلى سبيل المثال؛ انخفض متوسط معدل نمو إجمالي الإيرادات الضريبية -بسعر التجزئة الثابت- من 16.9% في عام 2010 إلى 8.9% في عام 2017. على جانب آخر، سوف تواجه الصين أعباء متزايدة من النفقات العامة. فمع انتقال المزيد من المواطنين إلى سن الشيخوخة، ستزداد النفقات الحكومية على برامج الرعاية الصحية والاجتماعية. كما سيزداد الإنفاق الحكومي على القضايا والتقنيات البيئية بسبب مشكلة التلوث الحادة في الصين، وفي الوقت نفسه، سينمو الإنفاق على البنية التحتية مع تقدم التوسع الحضري. وبالتالي، سوف يشهد الدين المالي العام وديون الضمان الاجتماعي وديون التأمين الصحي زيادة كبيرة خلال السنوات المقبلة.
  3. الاستهلاك الفردي: يعتبر الاستهلاك الفردي من أهم المؤشرات التي تعكس مستويات معيشة الناس ورفاهيتهم، فهو يكشف كيف يعيش الفرد، وفي الوقت الراهن تنتقل الصين بعيدًا عن نموذج النمو الذي يعتمد على الاستثمار والفائض التجاري العالمي نحو نموذج يعتمد أكثر على الاستهلاك المحلي.
  4. تحولات الملكية: كان تحول الملكية هو حجر الزاوية في إصلاحات السوق الصينية على مدار الأعوام الأربعين الماضية، واستمرت حصة الشركات الصناعية المملوكة للدولة في الانخفاض بنحو مستمر خلال حقبة الإصلاح. ويوفر القطاع الخاص حاليًّا حصة كبيرة من العمالة والإنتاج في الاقتصاد الصيني، ومع ذلك لا تزال الشركات المملوكة للدولة تواصل الهيمنة على الصناعات الإستراتيجية. ورغم سهولة الوصول إلى الائتمان وبيئة الأعمال الأكثر ملاءمة، فإن الشركات المملوكة للدولة تتمتع بكفاءة وربحية أقل نسبيًّا من الشركات غير المملوكة للدولة.. ينتُج هذا الوضع إلى حد كبير عن المشكلات المتأصلة في الشركات المملوكة للدولة، بما في ذلك مشكلة المدير والوكيل، والسيطرة الداخلية، وتدخل الدولة، ونقص المسؤولية الفردية من جانب القيادة، والحاجة إلى خدمة أهداف متعددة.

مستقبل التطوير الصناعي

تلعب الصين الدور الأكثر محورية في تغذية الصناعة العالمية بسلاسل التوريد، وقد حققت تقدمًا صناعيًّا هائلاً خلال الأعوام الأربعين المنصرمة، غير أن المستقبل الصناعي للصين خلال العقود الثلاثة المقبلة تشوبه تحديات قوية خاصة في مجالي الابتكار والتطوير. التحدي الأول يتمثل في فقدان الوظائف البشرية المتوقع بسبب انتشار الذكاء الاصطناعي، والتحدي الثاني يتمثل في ضعف جودة الابتكار، فرغم أن الصين تعد أكبر صاحب براءة اختراع في العالم وفقًا لمؤشر الابتكار العالمي عام 2018، لا تزال متخلفة عن البلدان المتقدمة في ما يتعلق بجودة الابتكار. وأخيرًا، يُعد سوء تخصيص موارد البحث والتطوير، والحماية غير الكافية لحقوق الملكية الفكرية، وتصاعد الاحتكاكات التجارية الدولية، من العوامل المهمة الأخرى التي تعوق التحسينات في قدرة الصين على الابتكار.

التحديات الخارجية للاقتصاد الصيني

من المتوقع أن يواجه النفوذ العالمي للصين كقطب اقتصادي منافس للولايات المتحدة تحدياتٍ في العقود الثلاثة المقبلة، سواء أكان على مستوى السياسات أم الدور المؤسسي أم حجم الأعمال، وهو ما يظهر على النحو التالي:
  • سياسات الانفتاح الصينية:
صارت الصين أكبر دولة في العالم في تجارة السلع، وثاني أكبر دولة في تجارة الخدمات، وذلك نتيجة سياسات الانفتاح الاقتصادي التي بدأت قبل 40 عامًا، فعلى مدى العقود الأربعة الماضية، زاد حجم تجارة الصين في السلع الأجنبية 204 أضعاف، وزاد ناتجها المحلي الإجمالي 34 ضعفًا فقط. اعتمدت الصين في تجربتها على عامل انخفاض التكلفة كميزة تنافسية داخل التجارة العالمية، إلا أنها في الوقت الراهن تواجه تراجعًا في هذه الميزة لصالح فيتنام ودول شرق آسيا الأخرى، وهو ما جعل الصين تخطط للتحول مستقبلاً من الاعتماد على توفير التكاليف كميزة تنافسية إلى الاعتماد على تحسين جودة السلع والعلامة التجارية.
  • المنافسة التكنولوجية:
لم تصل الصين بعد إلى التكافؤ التكنولوجي الواسع مع الولايات المتحدة، لكنها الدولة الوحيدة التي يُحتمَل أن تفعل ذلك في المستقبل المنظور.. ما أثار القلق الغربي بشأن الصين وأنتج حربًا تكنولوجية باردة بين الطرفين، وهذا تحديدًا يمثل تحديًا لها كقوة اقتصادية على مدى العقود الثلاثة المقبلة. فإذا اعتبرت الدول الغربية الصين خصمًا ستُقلَّل إسهاماتها في التكنولوجيا بالداخل والخارج، ما يؤدي إلى إبطاء التقدم في كل مكان، كما يمكن أن يؤدي فصل الابتكار الصيني عن الغرب إلى عالم منقسم مع تقنيات غير متوافقة وقيود على تدفق الأفكار والمواهب.
  • الدور الصيني في التمويل العالمي:
يعد الاقتصاد الصيني حاليًّا محركًا رئيسًا للنمو العالمي، لكن دور الدولة في التمويل العالمي وبروز عملتها لا يتناسبان مع وزنها في الاقتصاد العالمي، وفي الوقت الراهن تواجه الحكومة الصينية هذا التحدي من خلال تطوير أسواقها ومؤسساتها المالية لملاءمة التحركات نحو فتح حساب لرأس المال الصيني داخل الاقتصاد العالمي، كما تهدف الحكومة الصينية إلى تحول “اليوان الصيني” إلى عملة احتياط رئيسة مستقبلاً.
  • دور الصين في المؤسسات الاقتصادية الدولية:
إلى جانب صعود الصين كدولة تجارية واستثمارية خلال العقود الماضية، برزت أيضًا مشاركتها في المؤسسات الاقتصادية الدولية، وشبكة بنوك التنمية متعددة الأطراف، إلا أن الصين عالقة في عدد من التوترات والقضايا التي تغطيها منظمة التجارة العالمية، وبنوك التنمية متعددة الأطراف، وصندوق النقد الدولي. في الفترة بين عامي 2009 و2015، استحوذت القضايا المتعلقة بالصين على 90% من القضايا المرفوعة من الاقتصادات الأربعة الكبرى بعضها ضد بعض، وعليه فمن السهل تخيل مستقبل تصادمي لا يحدث فيه التوصل إلى حلول وسط، وينتقل الاقتصاد العالمي إلى تكتلات ومؤسسات متنافسة، ما ينذر بتحديات كبيرة في مجالات التجارة والتنمية والتمويل الدوليين.