هشام الحمامي يكتب: محمود درويش.. عصفورنا الأزرق الجميل

ذات مصر

عمنا (جوته ت/1832م) شاعر ألمانيا الكبير وصف الحب قائلا: بأنه شىء لا يقاس بموضوعه.. إنما يقاس بزمنه والحالة التى ومضت فيها ومضته..وهو قول صحيح تماما.. وهو أيضا ما حدث بينى وبين محمود درويش رحمه الله .. 

كيف كان ذلك؟                                           

تعود تلك الأيام إلى أشرف وأمجد فترة فى حياة أى مصرى..فترة التجنيد فى جيش بلادنا العظيم .وكنت بعيدا عن أمى..(قصة حبى) وإذا بى أقع على قصيدة بعنوان (أحن الى خبز أمى) ، وومضت ومضة (جوته) .. 

طبعا كنت أعرف محمود درويش شاعر الثورة الفلسطينية الكبير قبلها ..وهو صديق قريب لإثنين من أحب الكتاب  إلى ثم من أعز الأصدقاء.. الأستاذ رجاء النقاش(ت/2008م) مثقف العربية الكبير وهو على فكرو أول من قدم محمود درويش للقراء العرب.. 

والأستاذ جمال الغيطانى(ت/2015م) الروائى المعروف.

***

لم أكن أتفاعل معه ولا مع شعره كثيرا..لكن حين قال(أحن إلى خبز أمي ..وقهوة أمي..ولمسة أمي..وتكبر فى الطفولة يوما على صدر أمي.. وأعشق عمري لأني..إذا مت أخجل من دمع أمي).. 

حين قال تلك اللألىء ..أصبح درويش(عصفوري الأزرق) كما تقول الحكاية القديمة. 

محمود درويش

***

يقول هو عن هذه القصيدة الذهبية: حين دخلت السجن للمرة الأولى زارتني أمى في السجن وحملت لي خبزها الساخن وقهوة وفواكه..

احتضنتني وقبلتني ومن هنا خرجت (أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي) التي تحولت إلى أغنية جماعية.. ويضيف في إكرامه لها قائلا: منشأ شِعري كان من الكلام الصامت والمخزون لأمي. 

 الصديق الكريم المهندس هانئ عبد السلام عالم (المشروعات الكهربائية) الكبير قال لى مرة: الشاعر يٌعرف بشعره .. ولكل منا شاعر يشعر به .. ..وهو قول صحيح .. وأنا عرفت درويش من (خبز أمى). 

***

وتمر السنون وذات ليلة كنت فى أحد فنادق عمان للمشاركة فى مؤتمر.. اجلس فى البهو مع السيد/هاني فحص(ت/ 2014م)العالم والمثقف اللبناني المعروف رحمه الله ..وإذا بمحمود درويش يدخل الفندق مسرعا بخطوات رشيقة ونظرات حنونة تشبه الوعد القريب.. وما أن رأى السيد/هانى حتى أقبل عليه بود لافت مسلما ومرحبا..

والذى قام بدوره بتقديمى له، فشجعتنى بساطته وبشاشته أنا أحكى له حكاية (خبز أمى). 

وكانت سعادته كبيرة وأنا أرددها عليه، وعلى صديقنا المشترك الذى خسرته لبنان أشد الخسارة خاصة في هذه الأيام حالكة السواد..

ودار بيننا حديث سريع عن الدين والسياسة والثقافة والتاريخ .. واستنتج منه الشاعر النبيه على أى عتبه تقف أفكارى..

فازداد سعادة وفرحا..

لم يعش درويش طويلا ليعرف أنه (أيقونة) الشباب العربى كله بكل أفكاره وأختياراته.. 

***

ولد محمود درويش فى قرية البروة القريبة من عكا في 13 مارس 1941م (أنبتته جذع زيتونتنا الخالدة ..أورق وأثمر فانشد للجذع الراسخ والأرض الملوعة والطير المهاجر يحتضن أعشاشه و يدعو أسرابه إلى العودة ).. هكذا وصفه احد المثقفين الفلسطينيين..

يحكى درويش انه عندما ذهب إلى وزاره الداخلية الإسرائيلية للحصول على بطاقة هوية و بدا فى كتابة الاستمارة.. إلى أن وصل الموظف إلى القومية.. 

فقلت: (أنا عربي ..قلتها بالعبرية فسقط القلم من يد الموظف فقال: ماذا تقول ؟

قلت :نعم سجل أنا عربي).

***

وخرجت من مكتبه فى عكا لاستقل الأوتوبيس إلى قريتي ووجدت نفسي أدندن بهذا الاستفزاز (سجل أنا عربي) 

.. لم أكن أتصور أن هذا النص سيتحول إلى قصيدة ..                                                                

 ونُشرت في ديوانه الثاني (أوراق الزيتون) الصادر عام 1964م.

يقول :كنت أظنها صرخة استفزاز لموظف استهجن أن أكون عربيا .. وتحولت إلى (هويتي الشخصية الشعرية ).. 

لأنها تعلن عن حالة مواجهة متعددة الأبعاد مع إسرائيل فأنا عربي أولا ثم أواجه عدوى بكثرة النسل العربي ثانيا (أطفالي ثمانية وتاسعهم يأتي بعد صيف..) ثم أنى عامل بسيط أو فلاح أبسط. 

أنني مندوب جرح لا يساوم/ علمتني ضربة الجلاد ../أن أمشى ثم أمشى ثم أقاوم..

كتب هذه الكلمات بعد عشر سنوات من مجزرة كفر قاسم 29/10/1956                                   

***

سنه 1967 م بعد هزيمة العرب المستمرة، كتب قصيدته الشهيرة (ويسدل الستار ولهذا أستقيل) وتحكى عن ممثل مسرحي يمل دوره ، و يكتشف انه أداة في يد المخرج ، و يتمرد على دور ليس له.. 

فهو يستقيل من (الزيف والقناع الذي أضعه على وجهي).. لكنه كان كمن يسائل الحجر أو يناقش الريح!.. 

لم يتغير الحال كثيرا يا شاعرنا الحزين ..

***

تعرض درويش للسجن في معتقلات إسرائيل ثلاث مرات: 1961 – 1965 – 1967.

وفي عام 1977 م كان قد حقق الشهرة التي يبتغى.. ووزع من كتبه أكثر من مليون نسخة..وفي الوقت نفسه امتلكت قصائده مساحة قوية من التأثير حتى إن إحدى قصائده..(عابرون في كلام عابر) قد أثارت نقاشا حادا داخل الكنيست الإسرائيلي.

***

بين درويش والشاعر الجميل سميح القاسم (ت/2014م) صحبة عمر..الروح فيها تعانق الروح، بدأ سويا وعاشا سويا،وسارا فى نفس الطريق ..

سميح عاش ومات في الأرض المحتلة و درويش غادر و رحل .. وبقي حيث رحل ولم يعد..

.. لا يخجل درويش أن يقول أنني من الأثرياء الذين اغتنوا من تجربتهم الشعرية وتطويرهم للشعر ومساهمتهم المتواضعة في تطوير الشعر العربي الحديث. 

***

يقول هو عن نفسه (أنا شاعر مهووس بخلق معادل لغوى للواقع العربي الذي نعيشه أي أنني أخلق واقعا لغويا ..

 لا يهمني أن أكون شاعرا ثوريا أو عاطفيا ..فقصيدة عاشق من فلسطين.. مثلا لا تصنف إلى أغراض شعرية كما قال النقاد..) 

***

حبنا أن يضغط الكف على الكف ../ونمشى ..وإذا جعنا تقاسمنا الرغيف../وفي ليالي البرد أحميك برمشي../ وبأشعار الشمس نطوف.. 

هذا هو الحب الذي كان يوده محمود.. بيد أن الحياة ليست كذلك .. فنصف رغيف لا يكفي والرمش لا يدفئ. ولابد من دنيا لمن كان في الدنيا.. وعلى أهل المسرات الروحية أن يعايشوها!                                     

ويبقى الوفاء وصون العشرة والعمر الذي ذاب رحيقا فى العمر..

***

علاقة صاحبنا بمنظمة التحرير كانت مركبة بعض الشيء..استقال من لجنتها التنفيذية بعد اتفاق أوسلو(1993م) قائلا:(إن هذا الاتفاق ليس عادلا ، لأنه لا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته الفلسطينية ، ولا جغرافية هذه الهوية، إنما يجعل الشعب الفلسطيني مطروحا أمام مرحلة تجريب انتقالي..     

وقد أسفر الواقع والتجريب عن شيء أكثر مأساوية وأكثر سخرية.. وهو أن نص أوسلو أفضل من الواقع الذي أنتجه هذا النص!)..

صحيح .. وليس للظمآن في النار ماء.. لكنها مهمهة الضلال..؟.. ولن نزيد.

حين اشتعل الاقتتال الفلسطيني الداخلي..كان شيئا سخيفا وكريها ومقبضا .. كتب مقالته الشهيرة التي تصرخ ألما: (أنت الآن غيرك).. 

لا أعادها الله أياما .. 

***

ليس شىء على شىء من الدنيا يدوم، الأربعاء 9 أغسطس كانت ذكرى رحيله الخامسة عشر..

كتب كل ما كتب بحبر القلب ..وجاءت منيته رحمه الله من القلب ..

 ورحل درويش.. وهالة من المجد تحف رأسه.