انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.. تنازلات أنقرة لا تكفي

ذات مصر

منذ 30 عاماً على الأقل تحاول تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكن مساعي حكومات أنقرة لم تفلح على مدى في كسب ثقة أوروبا للانخراط في منظومتها، في ظل وجود عقبات واشتراطات صارمة تُعيق قبول عضويتها.

وبعد مرور أسابيع على فوزه بولاية ثالثة، جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مساعي بلاده لتحقيق أحد الأهداف طويلة الأمد، بإحياء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

وبرزت هذه المساعي بوضوح خلال اجتماع حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأخير في ليتوانيا منتصف يوليو الماضي، حيث فاوض الرئيس التركي حلفاءه الغربيين لإقناعهم بالدور الكبير الذي تلعبه تركيا في صد "الخطر الروسي" عن أوروبا بأكملها.

ومع إدراك تركيا لحاجة أوروبا ورغبة أمريكا، بضم السويد وفنلندا إلى الحلف، مع ما يعنيه ذلك من تحوُّل بحر البلطيق إلى منطقة نفوذ للناتو، والسيطرة على أكثر من 1,300 كيلومتر من الحدود الروسية الفنلندية التي ستستضيف قواعد الحلف وأسلحته، فإن تركيا سعت لاستغلال تأثيرها للمطالبة بتحقيق حلمها الثمين مقابل موافقتها على قرار سيقلب موازين القوى الجيوسياسية.

ورغم محاولة الرئيس التركي استغلال موافقة بلاده على انضمام السويد إلى حلف الناتو كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي مقابل الموافقة على عضوية بلاده فيها، إلا أن الطريق أمامه لا يزال طويلاً.

ولقيت شروط أردوغان رفض الأوروبيين والأميركيين، وقال الاتحاد الأوروبي إنه لا يمكن ربط موافقة تركيا على انضمام السويد للناتو، بفتح المجال أمامها لدخول الاتحاد الأوروبي، إلا أنه تعهد بإعادة طرح مشروع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي قبل إيقافه مجددًا.

وشهدت العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي توتراً قبل عدة سنوات، لكنها أخذت تتحسن كثيرًا فيما بعد، ويعتمد الاتحاد الأوروبي على مساعدة تركيا، العضو في الناتو، خاصة فيما يتعلق بملف الهجرة.

التنازل عن العربية

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وخروج الدولة العثمانية، مهزومة ومقطعة الأوصال، قاوم الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، محاولات الغرب تقسيم البلاد وأجبر الحلفاء المنتصرين على التفاوض حتى انعقدت "معاهدة لوزان".

ومهّد هذا الطريق لإعلان الجمهورية التركية في 29 أكتوبر 1923 كنظام برلماني يحكمه أتاتورك الذي أعلن نفسه رئيساً للبلاد، وأطلق بعد ذلك سلسلة مكثفة من الإصلاحات لبناء الدولة التركية الحديثة بطابع غربي.

وفي غضون عقد من الزمان، شهدت الدولة تغييرات جذرية، بدأت بإلغاء الخلافة، واستبدال الحروف العربية في الأبجدية التركية بالحروف اللاتينية، والتدخل في قواعد ارتداء اللباس، فضلاً عن سن قوانين مستوحاة من القيم الأوروبية، وعلى رأسها "علمانية الدولة".

وفي عام 1949، انضمت تركيا إلى مجلس أوروبا الخاص بحقوق الإنسان في ستراسبورج، ثم التحقت بعد 3 سنوات بالناتو، حلف شمال الأطلسي، الذي تم إنشاؤه لمواجهة الاتحاد السوفيتي.

في ذلك الوقت وضعت أنقرة أنظارها على مشروع ناشئ يهدف إلى تحقيق التكامل الأوروبي، وبعد 10 سنوات تقدمت بطلب العضوية، لتكون عضوًا مشاركًا في المجموعة الاقتصادية الأوروبية (EEC)، وهو الطلب الذي تمت الموافقة عليه بعد 4 سنوات.

لكن الأمور لم تستمر على ما كانت عليه الوفاق، إذ شهد عام 1974 ظهور أول عائق رئيسي أمام انخراط أنقرة رسمياً في فلك أوروبا، عندما غزت القوات التركية الجزء الشمالي من قبرص، رداً على انقلاب برعاية المجلس العسكري في اليونان، وأدى الصراع إلى تقسيم الجزيرة إلى شطرين، أحدهما يحظى باعتراف دولي، والآخر تعترف به تركيا فقط ويخضع لسيطرتها.

ومع ذلك كانت اتفاقية الشراكة لأنقرة أساساً متيناً لتمضي قدما في طريق الانضمام الكامل إلى المجموعة التي انضم إليها فيما بعد 12 عضواً، في وقت بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في تركيا نحو 1700 دولار، وهو بعيد عما كان عليه في ألمانيا وفرنسا الذي كان يقدر بـ 16 ألف دولار، حسب بيانات البنك الدولي.

إلى جانب ذلك أدى انهيار الاتحاد السوفيتي، وإعادة توحيد ألمانيا، والعلاقات السيئة مع قبرص واليونان، إلى عرقلة محاولات أنقرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي تأسس بناءً على "معاهدة ماستريخت" عام 1991.

وخلال عقود كان الأوروبيون ينتظرون من تركيا تنفيذ إصلاحات إضافية لتحقيق "معايير كوبنهاجن"، وهي مجموعة القواعد التي تُحدد أهلية أي بلد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

مسلسل التفاوض

قدمت تركيا أول طلب رسمي لها لتكون جزءًا مما عرفت آنذاك بالمجموعة الاقتصادية الأوروبية(EEC)، عام 1987، إلا أن طلبها قوبل بالمماطلة والتأجيل.

تطورت معايير العضوية وأصبحت أكثر صرامة، بعد تأسيس الاتحاد الأوروبي رسمياً عام 1993، وشملت التزاماً أكبر بالقيم الديمقراطية، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، وحماية الأقليات واقتصاد السوق المفتوح، الأمر الذي أعاق كثيرًا طموحات تركيا.

لكن الاتحاد سرعان ما عرض على أنقرة "خطوة وسيطة" في شكل اتحاد جمركي لتجارة السلع فضلا عن الزراعة والفحم والصلب، وأصبح يعمل بكامل طاقته بداية عام 1996، وبعد 3 سنوات أعلن قادة الاتحاد الأوروبي أن "تركيا دولة مرشحة"، مما فتح الباب لأنقرة للانضمام إلى صفوفهم على قدم المساواة.

وأشار قادة أوروبا في استنتاجاتهم المشتركة إلى أن تركيا مرشحة ومن المقرر أن تنضم إلى الاتحاد على أساس المعايير المطبقة على الدول المرشحة الأخرى"، ولم يكن الإعلان وقتها مجرد دعوة شكلية، إذ مُنحت تركيا إمكانية الوصول إلى أموال الاتحاد الأوروبي في شكل مساعدات ما قبل الانضمام.

اتباع الاتحاد السوفيتي في أوروبا

وفي عام 2004 توسّع الاتحاد الأوروبي، وضم 10 دول جديدة كانت تخضع لهيمنة الاتحاد السوفيتي، مما خلق فرصةً أمام الأتراك لينضموا بدورهم إلى المنظومة، لكنّ أن ذلك لم يحدث، وزاد الأمر من استياء أنقرة، لأن طلبهم للانضمام أقدم من طلبات الأعضاء الجدد، ولاسيما قبرص.

وفي عام 2005، تبنّت أوروبا أخيراً، إطار عمل للمفاوضات مع تركيا، وهو وثيقة مكونة من 9 صفحات تتخللها الإشارة إلى سيادة القانون، والقدرة الاستيعابية للاتحاد الأوروبي، وأهمية "علاقات حسن الجوار"، إضافة إلى التعليق المحتمل للمحادثات.

وتقول الوثيقة إن هدف المفاوضات هو الانضمام، وهي(المفاوضات) عملية مفتوحة لا يمكن ضمان نتائجها مسبقاً، وإذا لم تتحمل تركيا جميع التزامات العضوية بالكامل، فيجب التأكد من أن تركيا راسخة بالكامل في الهياكل الأوروبية من خلال أقوى رابطة ممكنة.

وكان إطار العمل بمثابة المبادئ التوجيهية الرئيسية للمفوضية الأوروبية، التي تم تكليفها بتوجيه المفاوضات، تنقسم المحادثات خلالها إلى 35 فصلاً، وهي معقدة للغاية تهدف إلى مواءمة المرشح تماماً مع جميع قواعد الاتحاد الأوروبي.

وافتتحت المفاوضات عام 2006، وبدأت بالفصل الخاص بالعلوم والبحث، واختتمت مؤقتاً في نفس العام، وفي العقد التالي تمكنت تركيا بقيادة الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، من فتح 15 فصلاً إضافياً.

وشملت عملية المفاوضات مع الاتحاد الأوربي خلال عهد أردوغان 13 فصلاً حتى الآن، منها: التنقل الحر لرؤوس الأموال، وقانون الشركات، وقانون الملكية الفكرية، ومجتمع المعلومات والإعلام، والأمن الغذائي والصحة الحيوانية والنباتية، وفرض الضرائب، والإحصائيات، وسياسة الإدارة والصناعة، والعلوم والأبحاث، والبيئة، وحماية المستهلك والصحة، والتحكم المالي، بحسب معلومات تركية رسمية.

طرق مسدودة

شهدت تركيا نمواً اقتصادياً غير مسبوق في العقد الأول من القرن الحالي، إذ تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أكثر من ثلاثة مرات، من 3100 دولار عام 2001 إلى 10.615 دولاراً عام 2010، فضلا عن توسع الخدمات بسرعة بفضل قطاعات مثل النقل والسياحة والتمويل، مما أدى إلى قفزة في تحديث البلاد، وفق البنك الدولي.

ولم يكن هذا التطور كافياً للتغلب على التوترات في البحر الأبيض المتوسط وازدياد التحفظ بين قادة الاتحاد الأوروبي، الذين بدأ بعضهم في اقتراح إمكانية استبدال العضوية الكاملة بـ"شراكة مميزة".

ونقلت "فرانس برس" عن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عام 2011 "بين الانضمام والشراكة الخاصة، التي تقول تركيا إنها لا تقبلها هناك طريق للتوازن يمكننا إيجاده".

الانضمام في 2023

ورداً على تحذيرات فرنسا وألمانيا والنمسا، رفع أردوغان المخاطر وقال إنه يتوقع استكمال الانضمام بحلول عام 2023، ليتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية، ومنحت أزمة الهجرة أواخر عام 2015 تركيا نفوذاً سياسياً كدولة تقف حاجزًا بين ملايين اللاجئين.

لكن الأمور تعقدت كثيرًا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016، حيث اعتبر الأوروبيون أن ما جرى دفع أردوغان إلى إحكام قبضته على السلطة وترسيخ ما وصفوه بـ"حكم الرجل الواحد".

وفي نوفمبر 2016، وافق البرلمان الأوروبي على قرار ينتقد "الإجراءات القمعية غير المتناسبة" التي تم اتخاذها في ظل حالة الطوارئ في تركيا، ودعا إلى "التجميد المؤقت" لمحادثات الانضمام، وفق موقع البرلمان الأوروبي نفسه.

وأثار الاستفتاء على تثبيت نظام رئاسي موحد في تركيا 2017 انتقادات من مسؤولي الاتحاد الأوروبي والمشرعين، وأفضى الاستفتاء إلى تقويض طلب أنقرة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بشكل أكبر.

وبلغ التدهور ذروته في يونيو 2018، حيث علّقت الدول الأعضاء المفاوضات، وأشار المجلس الأوروبي إلى أن تركيا كانت تتحرك بعيداً عن منظومته، وبالتالي "فإن مفاوضات انضمام تركيا وصلت فعلياً إلى طريق مسدود ولا يمكن النظر في فصول أخرى لفتحها أو إغلاقها".