محمد حماد يكتب: سيادة القانون سيادتك

ذات مصر

كنت أبحث عن نص حديث نبوي تشككت في صحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوقعت على حديث صحيح ورد في صحيح مسلم توقفت طويلًا أمامه، كأن الله ساقه إليَّ، الحديث يخبرنا فيه الصحابي «المستورد بن شداد» عن رسول الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس».

 المقصود واضح لا لبس فيه، سيكون الروم ساعتئذٍ أكثر من غيرهم من باقي الأجناس والأديان، والمراد بالروم واضح أيضًا هم شعوب العالم الغربي المسيحي، الحديث لفت نظر الصحابي عمرو بن العاص حين بلغه، فقال للمستورد: «ما هذه الأحاديث التي تذكر عنك أنك تقولها عن رسول الله؟»، (أراد أن يستوثق منه صدق ما ينقله عن الرسول)، وكان هذا صنيع الصحابة في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له المستورد مؤكدًا: قلت الذي سمعت من رسول الله، فقال عمرو: 

«لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالًا أربعا:

ـ إنهم لأحلم الناس عند فتنة.

 ـ وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة.

ـ وأوشكهم كرة بعد فرة.

ـ وأرحمهم لمسكين ويتيم وضعيف.

ـ وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك».

أدرك عمرو بن العاص مغزى حديث رسول الله، وراح يبحث عن الأسباب وراء قوله صلى الله عليه وسلم، وهو واحد من كبار العرب في الإسلام، وقد أدرك تلك النظرة من كثرة احتكاكه بدول الغرب في زمانه، ورأى أن هذه الخصال هي السبب في بقائهم وكثرتهم:

لا يخوضون في الفتن، ويسرعون إلى الإفاقة بعد المصيبة، ولا توقفهم الهزائم بل يسارعون إلى القتال من جديد، يرحمون المسكين والضعيف واليتيم، والخامسة التي وضع عمرو بن العاص تحتها خطوطًا حمراء أنهم (أمنَعُ النَّاسِ مِن ظُلمِ مُلوكِهم)، والمعنى أنَّهم يَمنَعون الملوكَ مِن الظُّلمِ، ويحتمل أنَّهم يَحمُون النَّاسَ مِن ظُلمِ الملوكِ.

تلك هي معالم التحضر والرقي، وفي المقابل على الضفة الأخرى من البحر يكون الظلم، وتضييع الأمانة، وإهدار الحقوق، والإسراع إلى الفتن، والخوض فيها بلا تمعن ولا تفكر، والجور على الضعفاء وعدم الأخذ على يد الظالم حاكمًا أو محكومًا وهي على الحقيقة أسباب ومعالم الخراب والهزيمة.

في هذا الحديث يقدم لنا عمرو بن العاص تفسيرًا اجتماعيًا سياسيًا عميقًا، وهو أصل من أصول علم الاجتماع، الذي عقد له ابن خلدون في مقدمته فصلاً بعنوان: (الظلم مؤذن بخراب العمران).

إقامة العدل في الدول سبب لبقائها واستمرارها، وقد قيل «إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة»، وهي مقولة ترددت على مر الزمان بين جنبات أمة العرب، من دون أن تدرك الأمة أن الدول لا دين لها إلا إقامة العدل وأداء الحقوق إلى أهلها، وبتر الظلم من كل بقعة فيها، وتطبيق القانون على القوي قبل الضعيف، وتلك هي أسباب قيام وبقاء الدول وتفوقها وغلبتها.

الدول تقوم على العدل وتزول بالقهر، الأمم ترتقي باحترام القانون واحترام الحقوق وأداء الواجبات، ذلك هو حكم التاريخ وتلك هي حكمته الباقية إلى يومنا هذا.

**

كثيرًا ما أستعيد قصة تلك السيدة التي حملت سمكة اصطادتها من أمام فندقها الصغير على شاطئ البحر إلى قصر بكنجهام لتسلمها إلى ملكة بريطانيا احترامًا للقانون.

هي قصة سيدة تملك فندقاً صغيرًا على شاطئ البحر، جاءها الصياد الذى يبيع لها السمك عادة، يحمل معه مفاجأة فاقت كل توقع، لقد اصطاد سمكة «السترجون»، وهو نوع من السمك ينتج الكافيار، وجوده في بحار إنجلترا نادر جداً.

سرت أنباء السمكة النادرة في ربوع القرية، وجاء رجل عجوز من أقصى المدينة يسعى إلى سيدة الفندق ليقول لها إن لديه خبرًا سيئًا بالنسبة لها ولسمكتها ولحفلتها التي أزمعت أن تقيمها لرواد فندقها.

 كان الخبر السيء، أن هناك قانونًا شُرِّع في القرن السادس عشر، يقضى بأن أي سمكة من نوع السترجون يتم صيدها في المياه الإقليمية البريطانية تكون مِلكًا لملكة إنجلترا.

وفضلًا عن سخافة القانون، الذي يعد نموذجًا لاستبداد القرون الوسطى، ولكنه قانون قائم، لم يعلن عن إلغائه، ولذلك فهو واجب الاحترام، في المجتمعات التي تربت على احترام القانون من الكبير قبل الصغير.

لم تكن سيدة الفندق الصغير تنوى أن تكسر قانونًا في بلادها، فأسقط في يدها، أو لعلها وجدتها فرصة لكى تعبر عن ذاتها في الامتثال للقانون، ولو كان يبدو خارج المنطق، وخارج التاريخ.

 اتصلت السيدة العجوز تليفونيًا بموظف في قصر الملكة، وطبعا رد عليها، ولم يأمر بالقبض عليها، والتحقيق معها من قبل مباحث أمن المملكة، ولا هو أحالها إلى مستشفى المجاذيب لأنها تجرأت على الاتصال المباشر بالقصر الملكي.

تلقى الموظف المخصص لمثل هذه الاتصالات من عامة الشعب مكالمة السيدة بكل ترحاب ومودة، فسألته المرأة، التي كانت على ما يبدو متشككة، عن وجود مثل هذا القانون، فقال لها: نعم هناك قانون موجود بهذا المعنى، وأنه لا يزال سار المفعول، ولما أخبرته بقصتها مع السمكة الملكية، قال موظف القصر لها: 

ـ رغم أن القانون قائم، ولكنه لا يظن أن الملكة ستطالب بالسمكة التي في حوزتها.

ولكن السيدة ألغت الحفل الذي كانت تزمع إقامته لجمهور الفندق ووجهاء القرية، واعتذرت للجميع، وحملت سمكتها في أحسن ما يمكن أن تحملها فيه، واستقلت القطار إلى لندن، وهناك توجهت على الفور إلى قصر بكنجهام حيث أصرت على تسليم السمكة للملكة.

وطارت بقصتها الأخبار، ووصلت إلى كل مكان عبر وسائل الإعلام، وتحدث الناس عنها وعن سمكتها وكان تصريحها الثابت على لسانها أنها سعيدة جداً بالخضوع للقانون، ولو كان من عصور بادت، مادام قائمًا.

كانت سعيدة بتنفيذ نص قانون ميت، لكي تحافظ على أن يظل حكم القانون حيًا في بلادها.

**

التجربة الإنسانية على مر الزمان تؤكد أن مظاهر سقوط دولة القانون، هي نفسها علامات قيام دولة القهر.

دولة القانون تفرض القانون على كل من فيها، الكبير والصغير، القوي والضعيف، الحكومة قبل المحكومين، لا فرق فيها بين المواطنين إلا بالالتزام بالقانون، ودولة القهر لا قانون فيها، غير قوانين الفساد والاستبداد.

دولة القانون تقوم على تشريع يعبر عن مصالح الأغلبية، وقضاء عادل مستقل، وإعلام حر، أما دولة القهر فأساسها تشريعات لمصلحة فئة محدودة من المواطنين، وقضاء تابع وفاسد، وإعلام موجه أو مكبل.

دولة سيادة القانون، يعيش فيها المواطنون سواسية تحت مظلة من الأحكام والقوانين التي تنظّم الحريات وإدارة شؤون الدولة، وتكون السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية مستقلة عن بعضها البعض، القانون هو الحاكم والمنظّم لأمور الحياة بموجب الدستور المتوافق عليه بين طبقات المجتمع، ودولة القهر يعيش فيها المواطن تحت رحمة أصحاب النفوذ، السلطة التنفيذية هي الطاغية فوق كل السلطات، والعنف هو صاحب الكلمة العليا في المجتمع في ظل دستور مفروض على الجميع، ولا يحظى بتوافق عام عليه من جميع طوائف الشعب وطبقاته.

في دولة العدل الجميع أمام القانون سواء، وفي دولة القهر الجميع تحت رحمة الحكومة سواء، من شاءت قربتهم منها، ونالوا رضاها، ومن شاءت أبعدتهم، ونالوا سخطها وتعذيبها.

في دولة القانون لا سلطة فوق القانون، والقانون هو الذي يحمي الفرد من الاستبداد، وفي دولة القهر السلطة كل السلطة في يد الرئيس، وهو صاحب الاختصاصات التي تجعل منه فرعون البلاد.

في دولة القانون السيادة في يد الشعب، والحكام ليسوا إلا مجرد عمال لصاحب السيادة، وفي دولة القهر السيادة للرئيس، والشعب ليس إلا مجرد عمال عند صاحب الفخامة.

سيادة القانون هي سيادتك، وبدونها لا أمل في الإصلاح.