محمد حماد يكتب: اللقاء الأخير بين نجيب محفوظ وسيد قطب

ذات مصر

جمعت بينهما مقادير عجيبة، حتى في تواريخ رحيلهما عجيبة ربما لم يفطن إليها كثيرون، كان نجيب محفوظ قد كتب في المرايا عن شخصية سيد قطب، وذكر أنه التقاه قبل وفاته بشهور قليلة، بعدها «وفى 30 أغسطس 1966، أطلق الرصاص على عبد الوهاب إسماعيل أثناء مقاومته للشرطة التي ذهبت للقبض عليه لمشاركته في مؤامرة للإخوان المسلمين فمات». 

كانت هذه هي صورة رحيل سيد قطب في «مرآة» نجيب محفوظ، الذي نُفذ حكم إعدامه شنقا في 29 أغسطس 1966، ولكن التاريخ الذي ذكره محفوظ (30 أغسطس) صار هو موعد وفاته بعد أربعين عامًا وفي اليوم نفسه من عام 2006 رحل «نجيب محفوظ» عن عالمنا.

حين تدقق في مسيرة ومسار كل منهما ستجعلك البدايات تتوقف أمام سؤال لماذا افترقا، رغم أن النهايات تجيب على السؤال المنطقي: كيف التقيا؟

جمعتهما الصدفة، وفرقتهما الفكرة، ورغم الخلاف الفكري بينهما ظل محفوظ حتى اليوم الأخير من عمر سيد قطب يعتبره صديقًا وناقدًا وأدبيًا كبيرًا، ممتنًا بدوره معه في بدايته: «كان له فضل السبق في الكتابة عنى ولفت الأنظار إليّ في وقت تجاهلني فيه النقاد الآخرون».

التباين بين السمات الشخصية لكل منهما يصل حد التناقض، جرت حياة محفوظ في مسار متصاعد، لم يحدث خلاله أية التواءات أو تراجعات أو تحولات عكسية، فجاءت الحياة على وتيرة واحدة تتسق بداياتها مع خواتيمها، بينما شهد مسار قطب تبدل المواقف والمواقع، وتضمنت سيرته تحولات تبدو فجائية، وخارج التوقعات، تفصح عن شخصية أكثر دراماتيكية.

**

كان نجيب محفوظ يتلمس خطواته الأولى على طريق النشر، فيما كان سيد قطب يخوض معارك أدبية ذائعة الصيت، وكانت مقالاته اللافتة تملأ الصحف والمجلات، منذ بدايته القوية على صفحات جريدة «البلاغ» الوفدية، لم ينقطع عن الكتابة للصحف والمجلات المتخصصة، بالإضافة إلى أن مجلة «الرسالة» التي ينشر فيها قطب مقالاته النقدية، كانت هي الأعلى صوتًا والأكثر تأثيرًا من بين المنابر الثقافية والصحافية في ذلك الوقت.

اقتربا قليلًا، وسرعان ما افترقا، جمعهم الأدب في فترة مبكرة من حياة كلٍ منهما، وفي نهاية المطاف فرقتهما الأيدولوجيا، شهدت الأربعينيات من القرن العشرين فترة الذروة في علاقتهما، احتوتهم صحبة الأدب ورحابة الإبداع، في تلك الفترة كتب قطب عن محفوظ أربع مقالات، بينما كتب محفوظ عن قطب ثلاث مرات، مرتين في حياته، وكانت الأخيرة بعد رحيل قطب بستة أعوام.

صحيحٌ أن سيد قطب لم يكن أول من كتب عن نجيب محفوظ، لكنه بلا شك أهم من لفت النظر إليه بقوة، كان متحمسًا له بقوة، آخر مقالات قطب ورابعها كرّر فيه الإشادة بفن محفوظ وأدبه، وراح يؤكد على أننا «نملك اليوم أن نقول إن عندنا رواية، كما نملك أن نقول إننا نساهم في تزويد المائدة العالمية في هذا الفن بلون خاص، فيه الطابع الإنساني العام، ولكن تفوح منه النكهة المحلية، وهذا ما كان ينقصنا إلى ما قبل أعوام».

**

نجيب محفوظ من ناحيته كتب عن سيد قطب، ثلاث مرات، في المرة الثالثة والأخيرة كانت في «المرايا»، قدم فيها «بورتريه» أدبيًا يتناول شخصية قطب، جعل اسمه فيها «عبد الوهاب إسماعيل».

 في هذا «البورتريه» رصد محفوظ التحولات الفكرية التي طرأت على سيد قطب، كما رآه في المرة الأخيرة التي التقاه في بيته بحلوان، كانت زيارة محفوفة بالمخاطر، ولم تثن طبيعة محفوظ غير المغامرة عن زيارة صديقه القديم في محنته، ولم يصده ما يمكن أن تسببه الزيارة له من متاعب أمنية، خاصة أنها جاءت عقب خروج قطب من السجن بعفو صحي.

كان طبيعيًا أن يدور الحديث في تلك الزيارة عن الأدب ومشاكله، ثم تطرق الحديث إلى الدين والمرأة والحياة، ولمس محفوظ عمق التحولات الكبيرة التي طرأت على شخصية وأفكار سيد قطب: «رأيت أمامي إنسانًا آخر، حاد الفكر، متطرف الرأي، يرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى، وأنه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله، انطلاقًا من فكرة الحاكمية، وأنه لا حكم إلا لله، وسمعت منه آراءه، من دون الدخول معه في جدل أو نقاش، فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل إلى تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب».

**

في تلك الزيارة كانت مجموعة من أصحاب اللحى تتحلق حول قطب، الذي لم يعد يشبه صديق محفوظ القديم، ولكنه -كعادته في إطلاق الدعابات – حاول محفوظ كسر حدة الصمت الثقيل، فأطلق دعابة عابرة، وافترض أن أساريرهم ستنفرج وسيضحكون، «ولكنهم نظروا إليَّ شزرًا، ولم يضحك أحد حتى سيد نفسه، وعندها غادرت البيت صامتًا».

أدرك محفوظ أن تحولًا كبيرًا طرأ على صديقه القديم، وأن هذه التحولات شملت شخصيته وطريقة تفكيره ومواقفه من الحياة والمجتمع وكل ما يدور حوله.

 بعد ذلك نما إلى علم محفوظ أن تحولات قطب قادته إلى قلب حركة «الإخوان المسلمين» باعتباره أحد مراجعها الكبرى، فانقطعت علاقتهما نهائيًا، حتى سمع بخبر مشاركة قطب في مؤامرة قلب نظام الحكم، وصدور حكم بإعدامه.

لم يتوقع محفوظ تنفيذ حكم الإعدام، «ظننت أن مكانته ستشفع له، وإن لم يصدر عفو عنه فعلى الأقل سيخفف الحكم الصادر ضده إلى السجن المؤبد على الأكثر، ثم يخرج من السجن بعد بضع سنوات، وخاب ظني ونفذ حكم الإعدام بسرعة غير معهودة أصابتني بصدمة شديدة وهزة عنيفة».

**

بعد ست سنوات من رحيله دخل سيد قطب في سجل محفوظ القصصي حين جسده في شخصية «عبد الوهاب إسماعيل» في روايته «المرايا»، قدمه «كالأسطورة تختلف فيه التفاسير، ورغم أنني لم ألق منه إلا معاملة كريمة أخوية، فإنني لم أرتح لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين، وكان في الثلاثين من عمره».

استرسل محفوظ في سرد حياة عبد الوهاب إسماعيل (سيد قطب)، وعلاقته مع ثورة يوليو، وانضمامه إلى «الإخوان المسلمين»، وتغيره وتطور نظرته التي وسمت كل المجتمع بالجاهلية.

 وباعترافه فقد قصد محفوظ شخصية سيد قطب: «الناقد المدقق يستطيع أن يدرك أن في تلك الشخصية ملامح كثيرة من سيد قطب من خلال شخصية عبد الوهاب إسماعيل».

 ورغم تحفظ محفوظ على التحولات التي لمسها في شخصية قطب، فقد ظل يكن له احترامًا وتقديرًا كبيرين، ولم ينس أبدًا فضل التنبيه إلى أدبه، ولفت الأنظار بقوة إلى رواياته.

**

في هذا اللقاء الأخير الذي رصد وقائعه نجيب محفوظ في معرض ما كتبه عن قطب في «المرايا»، يذكر أنه توجه إليه يسأله عن المستقبل، فرد عليه قطب: هل لديك اقتراح؟ فقال محفوظ: لديَّ اقتراح لكني أخشى أن يكون جاهليًا، أقترح أن تعود إلى النقد الأدبي.

وهي الأمنية التي لم تتحقق، وبدلًا من أن يخلد اسم سيد قطب في سجل المبدعين الكبار، وربما على غير ما توقع، ارتبط اسمه بتلك الجماعات والحركات التي قامت على فكرة جاهلية السلطة والمجتمع معًا، ومخاصمتهما والمفاصلة عنهما، وكانت المقادير قد خطت سطور تلك النهاية المأساوية لحياته.