قبل محوها من الوجود.. مقابر «القاهرة التاريخية» إلى مثواها الأخير

ذات مصر

باتت جبانات أو مقابر القاهرة التاريخية على وشك الزوال نهائيًا من الوجود، رغم ما تضمه من رفات لشخصيات طالما تغنى به المصريون لدورهم الرائد في التاريخ الإسلامي والمصري، فضلًا عن تصاميم معمارية نادرة تسحر الناظر إليها، وزخارف تعبر عن مراحل مهمة في التاريخ المعمار المصري.

تعد مقابر القاهرة التاريخية من أهم المعالم التراثية التي تتمتع بها مدينة القاهرة العريقة، حيث يرجع تاريخ إنشائها إلى أكثر من 10 قرون مضت، فضلًا عن احتوائها على رفات العديد من الشخصيات المهمة في التاريخ الإسلامي وكذلك المصري.

وُضع حجر الأساس لمقابر القاهرة التاريخية منذ الفتح الإسلامي لمصر في القرن السابع الميلادي، وتوالت مراحل توسعة المقابر بتعاقب الحقب التاريخية على مصر، حيث بات لكل مرحلة تاريخية بصمتها الخاصة بمقابر القاهرة التاريخية.

وتمتد مقابر القاهرة التاريخية "القرافة" أو ما تعرف بـ"مدينة الموتى"، من حدود منطقة العباسية حاليًا حتى منطقة البساتين أو صحراء المعادي، وتشتمل تلك المنطقة على بضعة أسماء لمقابر القاهرة القديمة.

سفح المقطم.. القرافة الكبرى

«القرافة الكبرى» في منطقة المقطم، كانت أولى الأماكن في القاهرة التي تخصص للدفن، ويُروى عن الفقيه الليث بن سعد، أن المقوقس حاكم مصر، سأل الصحابي عمرو بن العاص أن يبيعه سفح جبل المقطم بسبعين ألف دينار. فكتب عمرو ذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأرسل إليه الخليفة يسأله: "لِمَ أعطاك ما أعطاك فيه وهو لا يُزرع ولا يستنبط منه ماء ولا ينتفع بها؟".

وسأل عمرو المقوقس وأجابه: "إنا نجد سفحه في الكتب القديمة أنه يدفن فيه غراس الجنة". فكتب عمرو بذلك إلى الخليفة عمر، فكتب إليه: "إنا لا نعرف غراس الجنة إلا للمؤمنين، فاجعلها مقبرة لمَن مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء".

فما كان إلا إن مات رجلا يسمى عامر بن عبد الله من بني قرافة من إحدى بطون قبائل المغافر اليمنية، فأمر عمرو بدفنه هناك، وقال: لقد عمرها عامر، فكان أول من دفن بالمقطم، أما قومه من بنى قرافة فقد جاوروا مقبرته، فعرف المكان بهم فقيل "القرافة"، ثم أصبح هذا الاسم "القرافة" يطلق على المقابر.

وأسس المسلمون بعد ذلك في هذه المنطقة "قرافة" يدفنون فيها موتاهم، ويطلق اسم "القرافة الكبرى" على المنطقة التي تقع خلف جامع عمرو بن العاص وحتى جبل المقطم، ومن أهم القبور الموجودة فيها، قبور عمرو بن العاص، وعبدالله بن الحارث، وعبيد بن حذافة، فضلًا عن قبر الصوفي الشهير عمر الفارض.

القرافة الصغرى

أما القرافة الصغرى والمعروفة بمقابر الإمام الشافعي حاليًا، فيعود تأسيسها إلى عام 608 هجرية، عندما دفن الملك الكامل محمد الأيوبي ابنه فيها بجوار قبر الإمام الشافعي.

وتمتد القرافة من شارع صلاح سالم حاليًا، حتى مشارف جامع ابن طولون، وتضم ضريح الإمام الشافعي وما حوله من قباب وأحواش ومدافن أقيمت على شرفه.

كما تضم القرافة، ما عرف بـ"حوش الباشا" الذي أنشأه محمد علي؛ ليحوي مقابر العائلة العلوية المالكة، فضلًا عن مقبرة أمير الشعراء أحمد شوقي، ومقبرة الإمام ورش، صاحب أحد روايات القرآن المشهورة.

ضريح الإمام الشافعي

بنى الملك الكامل محمد الأيوبي، قبة من الخشب فوق قبر الإمام الشافعي بعدما دفن ابنه بجوار قبره، وما زالت موجودة حتى الآن، وتعد من أهم بنايات العصور الوسطى وأجملها من حيث الزخرفة والألوان والنقوش الفريدة.

 

 

 

جبانة المماليك

تضم مدينة الموتى أيضًا، قرافة المماليك، وهي التي تقع بمحاذاة شارع صلاح سالم، ثم قرافة باب الوزير التي تقع بجانب القلعة من الناحية الشمالية الغربية في حي بابا الوزير الشهير، ثم مقابر باب النصر التي تقع في الجهة المقابلة لسور القاهرة الشمالي عند باب النصر.

تقع مقابر المماليك شرق طريق صلاح سالم الحالي، ويعود تاريح تأسيسها إلى القرن الثامن الهجري، حيث بدأ المماليك الشراكسة في إقامة مساجد لهم في تلك المنطقة وألحقوا بها مقابرهم.

ومن أبرز المعالم التي تتضمنها، مسجد وخانقاه السلطان برقوق، ومسجد وخانقاه السلطان الأشرف بارسباي، ومسجد السلطان قايتباي وملحقاته، وقبة جاني بك الأشرفي، وقبة قرقماس، وربع قايتباي، وتكية أحمد أبو سيف.

وكذلك تضم جبانة المماليك مقابر تاريخية وآثارًا إسلامية، تعود إلى نحو خمسة قرون، بعضها مصنف ضمن التراث العالمي بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو".

كما تضم  أكثر من 30 أثراً مسجلاً، وقد دفن بها عدد من سلاطين المماليك، منهم السلطان قايتباي، والسلطان برقوق، وغيرهم، فضلا عن  مقبرة الفقيه الدمشقي،  ومقبرة "سلطان العلماء" الإمام العز بن عبدالسلام، وبها أيضًا مدفن المفكر والفيلسوف المصري أحمد لطفي السيد، أحد رواد النهضة والتنوير في مصر.

مقابر السيدة نفيسة

تضم مقابر السيدة نفيسة، حوش الشيخ أبو جعفر الطحاوي المسجل ضمن الآثار الإسلامية، وبجواره قبة أثرية للقائد العسكري الشهير إسماعيل باشا أبوجبل الذي كان أحد قادة حرب القرم.

كما تضم مقبرة “قيثارة السماء” الشيخ محمد رفعت، والكاتب الروائي يحيى حقي، ومقبرة مصطفى رياض باشا رئيس وزراء مصر الأسبق، وبجوارها يوجد حوش آخر شيد بطراز معماري فاخر هو حوش محمد صبري باشا أبو علم الذي كان وزيرا للعدل، وأيضًا مقبرة يحيى باشا إبراهيم رئيس الوزراء بين  عامي 1923 و1924 الذي تولى لاحقا مجلس الشيوخ.

قرافة سيدي جلال

تبدأ قصة هذا الجزء في عصر الناصر محمد بن قلاوون، الذي حكم مصر ما بين سنة 1293 حتى سنة 1341 ميلاديًا، عندما اتخذها السلطان المملوكي كامتداد عمراني طبيعي للقرافة الصغرى، قرافة الإمام الشافعي، عندما ضاقت على الناس.

تضم المنطقة ضريح العلّامة جلال الدين السيوطي نفسه، وهو على هيئة قبة مضلعة بيضاء، ويرجع تاريخ بنائه إلى فترة مختلفة عن تاريخ وفاته.

ترجع المنشآت المختلفة التي تضمها  قرافة جلال الدين السيوطي، إلى فترات تاريخية مختلفة، ومن أهمها تربة الأمير قوصون، الذي كان من أوائل الأمراء الذين بنوا في تلك المنطقة تربة كاملة مكونة من قبة ومئذنة وخانقاة ومسجداً، ولم يتبق من تلك الوحدات المعمارية الآن سوى قبة الضريحية ومئذنة فقط.

كما تقع بجانبها التربة السلطانية التي شيدتها خوند سمرا، زوجة الناصر محمد بن قلاوون، ووالدة السلطان حسن الذي حكم مصر بعد وفاة والده، ولم يتبق من تلك التربة التي بنيت قبابها على نمط قباب سمرقند، إلا قبتين فقط ومئذنة تقع بالقرب منهما.

فضلًا عن مسجد المسيح باشا، الواقع على رأس القرافة، ويعود بناؤه إلى العصر العثماني سنة 1575، وهو من بناء الوالي العثماني مسيح باشا الخادم، حيث بناه على ضريح الشيخ نور الدين القرافي الذي دفن في الموضع نفسه.

لا تعد القرافة مجرد منطقة دفن عادية، بل اكتسبت على مدار تاريخها شيئًا من القدسية والاحترام الكبير، وتعامل المصريون معها أحيانًا كمنتزه ومكان لهو ولعب، غير أنهم يعجبوا بها ومن بنائها.

وقد تحدث المقريزي عن القرافة، في كتابه “الخطط” بقوله: “والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحُجرها، ولا أعجب تربة منها، كأنها الكافور والزعفران، مقدسة في جميع الكتب، وحين تُشرف عليها تراها مدينة بيضاء، والمقطّم عالٍ عليها كأنه حائط من ورائها”.