منار خالد تكتب: التجريب بين القوالب النظرية والتجارب العملية.. لماذا لا نمتلك شجاعة القول إننا لم نفهم في بعض الأحيان؟

ذات مصر

منذ أيام قليلة انتهت الدورة الثلاثين من "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي"، برئاسة الدكتور سامح مهران، قدم خلال أيام الفعاليات العديد من الورش المتنوعة بين التمثيل، والارتجال، والموسيقى، والإنتاج، بجانب  العروض المسرحية مختلفة البلدان والجنسيات بين مصر، والسعودية، والإمارات، وتونس، والعراق، وفلسطين، والجزائر، وكذلك البلدان الأجنبية كجورجيا، وأرمينيا، وفرنسا، والكونغو، واليونان، وليتوانيا، وألمانيا وإيطاليا. 

يعد المهرجان فعالية سنوية مهمة وفارقة في تاريخ المسرح، تتجلى أهميته الأولى في ماهيته بكونه "دوليا" قادرًا على جمع عدد كبير من فناني ومبدعي أكثر من بلد داخل القاهرة لمدة أسبوع لتبادل الثقافات والنقاشات والرؤى الفنية، وكذلك تلك الجلسات والندوات والورش الفنية، فجميعها تصب في صالح المبدع والمتفرج بصفتها فرصة للمشاهدة والمناقشة الحية المثمرة، وتلك هي أولى ماهياته، ثم تأتي التالية الخاصة بمصطلح "التجريب" ذلك المصطلح المطاط الذي كان وما زال هناك سعي جاد نحو قولبته، وأوراق بحثية لا حصر لها لمناقشته، حيث إنه بالمراجع والسند العلمي لا يوجد تعريف أكاديمي جامع مانع لذلك المصطلح، الآتى من لفظة "تجريب" أي تلك التجربة أو المحاولة إيجاد أو خلق شيء جديد وفقًا لما هو متعارف عليه من قواعد، أي بالفعل لا تحكمه القاعدة، بل كسرها، ومنها يكون كل عمل فني تجربة بذاته ويخضع لذلك المصطلح الذي لا يجوز أن يكون تصنيفًا، لأن ذلك الإصرار يؤدي إلى فوضى في التعامل معه، فوضى تصل إلى حد أن أي شىء غير واضحة ملامحه سيطلق عليه ذلك المصطلح اللامعلوم التعريف، حيث بدأت الساحة النقدية منذ سنوات كثيرة محاولة تلمس ظواهره، شأنه شأن أي تيار يُنتجه المبدع ثم يبحث في شأنه الأكاديميون لبلورته داخل تعريف محدد، وذلك بعد أن انفتح المجال المسرحي على أشكال درامية تتحدى القاعدة، حيث الثورة كليًا عليها، أو الخلط بين أكثر من قاعدة تقليدية لولادة الجديد، مع الأخذ في الاعتبار أن التمسك بكل ما هو كلاسيكي قبل أن يتخطاه المسرح وعروضه تخطاها الزمن فعليًا، لذا فهو في المقام الأول تجديد منطقي متسق مع عصره، ومنه ظهرت العديد من التجارب تسعى للبحث الدائم نحو توظيف آليات جديدة للإيمان التام بأحقية التجربة وعدم الالتزام بالقاعدة، ليتضمن المسرح وفقًا لكل عصر يحياه بالتبعية نفسًا حداثيًا يتجلى في نفي ما هو قائم ورفض ما أصبح مسلمًا به، أي فعل التمرد الفني الحر مع إمكانية التغيير، لكنه يبقى مجالًا واسعًا لا يمكن حصره وسؤالًا مفتوحًا إجابته يحتاج للمزيد من الاسئلة اللامتناهية، لذا فلماذا يطلق بصفته مصطلحًا معرفًا على مهرجان دولي كبير ومهم؟

تجريبي ومعاصر

قدمت مقترحات في دورات عدة من قِبل الأكاديمين بعد البحث العميق في ماهية ذلك المصطلح محاولين إيجاد طريقة تحدد صفاته بشكل أكثر دقة وجعله متخصصًا محدد الأهداف تشارك العروض المختلفة فيه بصفته دوليًا مع إرفاق لفظة "معاصرة" بجانب التجريبي، كي يهدأ الأمر من جانب الالتزام بالتجريب الصرف غير المحددة شروطه، ورغم أن المعاصرة أيضًا لفظة مطاطية لكنها تتماشى مع طبيعته كل عام، حيث يكون بصفته دوليًا معاصرًا، أي يستضيف عروضًا من دول مختلفة مُقامة في الوقت المعاصر الراهن الحالي للتعرف عليها، وعلى أساليب تلك البلد مسرحيًا، ليكون هناك رقعة أكبر في استقبال العروض حتى وإن كانت تلتزم بالقواعد التقليدية يكفي التعرف على مسارح مختلفة وثقافات متعددة، ثم بحذف صفة المعاصرة، وإعادته تجريبيًا دوليًا فقط من جديد في دوراته الأخيرة، فهي فكرة تبدو في ظاهرها أنها متسعة، حيث فتح القوس دون أي قيود، لكنها في حقيقة الأمر تحجم الإبداع أكثر، لأنها بصفتها صفة غير معلومة التعريف، يفسرها كل وفقًا لمفهومه الخاص، تظهر من بينها تجارب كاستعراض لياقة بدنية، أو تقنية، باقتناع تام أن ذلك هو التجريب، وهنا لا يمكن القول بأنه ليس ذلك هو التجريب، لأن لا أحد يعلم ما هو التجريب بالأساس.

ورغم أن تلك التجارب تفتقد الروح المسرحية حيث لا خط درامي وحيد يحكمها، وأحيانًا يصل بها الأمر للثرثرات أو السجالات غير المنتهية، إلا أنه حين التصريح بذلك يكون هناك إصرار أكاديمي جامد ومتحجر نحو القولبة.

إذن: ما هي الرؤية التي يمكن أن يتم تناول الأمر بها؟

في رأيي أن الرؤية يحكمها التذوق الجماهيري، سواء متخصص أو غير ذلك، فالجميع يبقى متلقيا، مهما علم من قواعد ومهما رأى من ثورة عليها، يبقى لا يندمج إلا إذا شاهد دراما، أي فعلا دراميا بأي طريقة كانت، عن طريق التمثيل، الحوار، الرقص، الدراما الحركية، أي طريقة طرح تحتمل التجديد لكن تبقى على عهد الدراما والفهم، حتى لو حملت بين طياتها تأويلات وعمقا وأبعادا أكثر من التقليدي، لكن الاستغناء عن الخط الواصل بين جميع العناصر يسبب الفرقة ويستشعر حينها المتلقي بالضياع في آلية استقبال العمل.

التجريب بين العراق وجورجيا

ظهرت تجارب هذا العام مشاركة بالمهرجان تحمل تلك اللعبة المتوارية داخل عباءة التجريب، مثال العرض العراقي "ملف ١٢" الذي افتتح بشخصية مكبلة بالتلفاز في رأسها كإشارة نحو ذلك الحصار الذي تعانيه الشخصية من ذلك الجهاز، أي افتتاحية ممهدة لما هو قادم من شيء ما زال غير معلوم، ثم يستكمل العرض خطاه على رقص ومجهود بدني من قِبل المؤدين شاق للغاية وواضح به التدريب والمجهود، لكنه لا يرتبط بالافتتاحية، ولا يرتبط ببعضه، ولا يمكن انتهاؤه إذا لم يحدد العرض بمدة زمنية واضحة وفقًا لشروط المهرجان، ومنها هل يمكن اعتبار أن ذلك لم يكن تجريبًا؟ بالطبع لا. فهو تجريب، لأنه محاولة لتقديم قدرات بدنية ولياقة عالية، وذلك بما أن التجريب هو ذلك المصطلح الذي وضعنا في ذلك المأزق، لكن يبقى السؤال الأهم: هل استمتع المتلقي؟ لم يكن السؤال أبدًا هل وصل للمتلقي مضمون ورسالة ومعنى محدد، بل يكون السؤال: هل تم الأستمتاع، الاندماج مع العرض، ربما كل كلمة داخل المجتمع الأكاديمي تحتمل تعريفات لا حصر لها، فالاندماج بذاته جاءت تيارات مسرحية لتكسره منذ أزمنة ماضية، لتحقيق كسر الإيهام الكامل، لكنها كانت تكسره بهدف التشارك وإزالة الفوارق بين المبدع والمتلقي، وتحقيق التفاعيل من مناظير مختلفة ومتجددة أيضًا، حقًا كم صعبة وشاقة تلك المفاهيم الأكاديمية، لكن إذا وقفت حائلًا في استقبال العملية الإبداعية، تنتصر حينها الذائقة الجماهرية عليها بكل تأكيد، لأن الإبداع يخلق أولا ثم تخلق القاعدة، والإبداع يتحقق عندما يستقبله المتلقي، وتنحية الجمهور مهما كانت درجة تخصصه من رؤية العمل تسبب خللًا بلا شك حتى لو ارتضاها الجانب الأكاديمي. أو حاول ذلك رغمًا عنه حتى لا يظهر غير فاهم أو مدرك ما شاهده.

وفي مقابل ذلك العرض وما يشبهه ظهرت عروض أخرى أجنبية في الدورة نفسها قدمت تقنيات وقدرات هائلة تحكمها سياقات ودراما وحبكة، مثل عرض "عطيل" من بلده جورجيا، ومن بداية اسم العرض يتضح كم تظهر فيه الكلاسيكية وحضور لشكسبير، لكن للعرض رؤيته في أن التجريب في طريقة الطرح والتقديم وليس في الدراما المكتوبة، لذا أعاد العرض صياغة نص مأخوذ من شكسبير يقدم في حدود الساعة فقط، أي إعادة كتابة تحكمها آلية التجريب التي سيقدم بها العرض على الخشبة، باستخدام العرائس وأجساد الممثلين معًا، ليبقى طرحًا متجددًا على مستوى الرؤية البصرية للعرض، لكنه تحكمه دراما وحبكة واضحة تلفت الانتباه رغم اختلاف اللغة، لذا يطرح سؤالًا جديدًا: هل يرتكز اختيار العروض على تجديد الطرح الدرامي التابع للنص، أم الطرح المرئي التابع للعرض، بصفته مهرجانًا يقدم عروضًا في المقام الأول؟

والسؤال الثاني: هل من التزموا بتقديم حبكة وخطوط درامية واضحة هم أصحاب تجريب أم لا؟ وماذا عن مشاركتهم بجانب الفرق غير المهمومة بوجود الدراما؟

والسؤال الثالث: هل يتساوى عرض قائم على حركة الجسد، تلك اللغة التي لا تحكمها ثقافة ولا بلد ويفترض أن تكون مفهومة وقادرة أن كل من يشاهدها يستطيع تفسيرها، ثم يعجز كل من يشاهدها عن ذلك، لأنها غير منسجمة مع بعضها البعض، في مقابل عرض أجنبي يُمثل بلغته لكن يتم فهمه لأنه تحكمه دراما وطريقة طرحه بها تجديد وإبهار وعوامل جاذبة للعين؟

وأخيرًا ربما من الصعب تغيير اسم مهرجان ناجح وموجود على مدار كل هذه الأعوام، مدة تخطت الربع قرن، لكن ذلك لا يعني أن البحث وراء المصطلح ما هو إلا إهدار للوقت فعليًا، ومحاولة قولبته هي محاولة ضد التجريب من الأساس، وكذلك تركه مطاطيًا إلى هذا الحد هو أمر يسبب إهدار وقت أكبر في مشاهدة عروض لا سياق لها. وتبقى الأزمة. دون إيجاد حل لتقديمه في نهاية المقال. لكنها أمنية من مُشاهدة أن تستمع وتفهم ما يقدم أمامها. وألا يخرج من العرض من لم يفهموا درامته، محاولين التظاهر بالفهم، نحتاج قبل أي شيء لحظات صراحة حقيقية في التعبير عن عدم الفهم، وعدم التأويل المُفرط فيما لا يحتمل التأويل، ووضع كل شيء في مكانه الطبيعي، فالعرض غير المفهوم تلك هي ماهيته، وذلك هو التجريب في نظر صُناعه، ومحاولة إقحام مفاهيم عليه ما هي إلا محاولة لسلبه هويته التي يتمتع بها. فربما تلك الصراحة وإعلان عدم الفهم تحقق مبتغاه. وتحقق التجريب.