بعد 10 سنوات ثورة وقضاء.. أموال المخلوعين: هل عادت إلى جيوبهم؟

بعد مضي أكثر من عقد تقريبا على اندلاع ثورات ما يُعرف بـ"الربيع العربي"، يتكرر الحديث عن ثروات الرؤساء المخلوعين من قبل شعوبهم، فمن مصر إلى تونس مرورًا بليبيا تدخل القانون ليحسم قضايا تتعلق باسترداد تلك الأموال من الخارج أو محاولة تعيينها في الداخل.. فأين استقرت تلك الأموال حاليا؟

ورغم مرور تلك الفترة، وتبدل مسارات الأحداث في الدول التي واكبت تلك التغييرات، فإن القضية لا تزال تتصدر الأنباء وتحظى بتفاعلات جديدة، أحدثها الشهر الجاري الذي يواكب زمنيا ذكرى بدء تجميد حسابات القادة المخلوعين وعائلاتهم والمقربين منهم، وسواء تعلق الأمر بإمكانية فقدان الأموال بشكل تام، أو احتمالية استردادها من قبل مودعيها وورثتهم، فإن مدة السنوات العشر إطار قانوني يوجب فك الحظر أو التجميد وفق قوانين أوروبية، وتحديدا سويسرية، باعتبارها الجهة التي تلقت غالبية تلك الأموال.

انعكس إذن تشابك الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، بعد الثورات، بنفس الصورة على ملف استرداد الأموال الخاصة بقادة الدول المخلوعين وعائلاتهم والمقربين منهم. فعند النظر إلى حقيقة أنه لا يد لأحد في حدوثها أو تغييرها، تتمثل في وفاة كل الرؤساء السابقين الذين أطاح بهم "الربيع العربي"، بداية بالليبي معمر القذافي مرورا بالتونسي زين العابدين بن علي، وصولا إلى المصري حسني مبارك، يتضح أن الهوة اتسعت أمام توثيق الإدانة بالفساد أو حتى البراءة منه، فضلا عن صعوبة الاسترداد، خاصة أن دول البنوك المسيطرة على الأرصدة تشترط وجود أدلة تقبلها، قبل إعادة الأموال.

يعتبر البعض أن دم المسؤولية عن عدم استرداد تلك الأموال تفرّق بين اللجان والدول والأحكام وغيرها من التفاصيل، فضلا عن تداخل ضعف كفاءة مسؤولي لجان الاسترداد في بعض الدول، مع حرفية الإخفاء عبر ملاذات مأمونة ومعقدة، ناهيك بعدم وجود خبرات عربية سابقة في المضمار نفسه، إذ إنها التجربة الأولى التي تخوضها تلك الدول مع كيانات وإدارات متمرسة في سويسرا وبلجيكا وغيرهما، في سجال غير متكافئ، فيما يمكن تسميته بانتصار المتهم على المحققين بما يملك من أدوات.

ووفق "مبادرة استرداد الأموال المسروقة" (ستار) وهي شراكة بين "البنك الدولي" و"مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة"، فإن "التقديرات المتحفظة تذهب إلى أن نحو 20: 40 مليار دولار تُسرَق من البلدان النامية كل عام".

الأولة مصر

بحسب أحدث الإفادات الرسمية محليا ودوليا، فإننا أمام حقيقتين الآن، أولهما: أن الأرصدة المملوكة للرئيس الأسبق حسني مبارك، ونجليه جمال وعلاء والمقربين منه في سويسرا باتت غير مجمدة، أما الثانية: فهي أن هناك في مصر الآن لجنة تشكلت بقرار من الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2015 تحمل اسم "اللجنة القومية لاسترداد الأموال والأصول والموجودات في الخارج"، ولا تزال تمارس عملها وتضم إلى عضويتها شخصيات رسمية بشكل دوري، كان أحدثها في أبريل 2020 عندما أصدر رئيس الوزراء المصري قرارا بضم مساعد وزير الخارجية للشؤون القانونية الدولية والمعاهدات إلى عضوية اللجنة.

مساران متباينان بين الداخل والخارج، فمن جهة اعتبرت "محكمة العدل الأوروبية" أنها "لم تتمكن من التأكد أن العقوبات المفروضة على مبارك وأسرته كانت على أساس متين"، ومن جهة أخرى تعمل اللجنة بحسب قرار تأسيسها على "استرداد الأصول والموجودات المصرية من الخارج، وتمثيل مصر أمام المحاكم الأجنبية وهيئات التحكيم، ووضع استراتيجية قومية لاسترداد الأصول والأموال المهربة في الخارج، وتقديم الطلبات باسم الدولة المصرية إلى الجهات المختصة بالخارج، وإثبات أحقية الدولة في استرداد الأصول".

التباين نفسه يتكرر في تعامل أطراف تلك القضية معها، فبينما كان دفاع الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ممثلا في المحامي فريد الديب، يقول إن موكله (حسني مبارك) "لم يملك مليما في الخارج"، فإن عائلة الرئيس الأسبق احتفت برفع اسمه ونجليه من قائمة العقوبات الأوروبية والبريطانية وإنهاء تجميد الأموال، معتبرين ذلك "انتصارا بعد الرحيل"، رغم أن قرارات التجميد كانت تتعلق بأموال الأسرة ككل.

صحيح أن مبارك ونجليه أدينوا بحكم نهائي بات وغير قابل للطعن يتعلق بإدانة بالفساد في إدارة أموال مخصصات "قصور الرئاسة"، إلا أن حجم أموال العائلة والمقربين منها ظل رهنا للتضارب، خاصة فيما يتعلق بالقيمة، إذ كانت التقديرات تشير إلى أن المصارف السويسرية فقط جمدت أموالا بقيمة "700 مليون فرنك سويسري (13 مليار جنيه مصري، وفق السعر السائد للفرنك السويسري حاليا بقيمة 17.5 جنيه مصري تقريبا")، ثم أسهم مسار "التصالح القضائي"، الذي بدأته مصر مع بعض رموز نظام مبارك في استرداد بعض تلك الأموال لمالكيها، قبل أن يفيد تقرير سويسري حديث بأن قيمة هذه الأموال في سويسرا تُقدر بـ400 مليون فرنك.

على أي حال، فقد تحالفت عوامل تضارب الأرقام وصعوبة إثبات الحصول عليها بطريقة غير مشروعة، مع مشكلة صعوبة تحديد نطاق ولاية قرارات التجميد والتراجع عنها في أوروبا، فأسهما معا في خلق استنتاج لا يمكن دحضه وهو أن "تلك الأموال لم تعد إلى مصر حتى الآن"، كما أن ذلك الاستنتاج طرح بدوره سؤالا يبدو بلا إجابة: "إلى من ستؤول تلك الأموال.. إلى من أودعوها أم الحكومات القائمة؟".. لكنها فيما يبدو ستؤول، بعد قرار رفع التجميد، إلى من وضعت بأسمائهم في البنوك الأوروبية.

الإجابة تونس

وفق تقديرات سويسرية رسمية، فإن أموال الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، الذي كان أول من أطاح بهم "الربيع العربي"، وحاشيته، تُقدر بـ56 مليون فرنك سويسري، غير أنه مع مرور 10 سنوات على ذلك التغيير يبدو التونسيون مهددين بفقدان الأمل في الحصول على تلك الأموال، وبحسب ما ينص القانون السويسري فإن "مدة تجميد الأموال المهربة، وصلت إلى الحد الأقصى، دون أن تكمل السلطات التونسية الإجراءات القانونية لاستعادتها".

ويبرز اسم زوجة الرئيس التونسي السابق، ليلى الطرابلسي، كأول المستفيدين من استرداد تلك الأموال، وبحسب ما قدر مسؤول رئاسي تونسي، في تصريحات أفاد بها لوكالة الأنباء الفرنسية الشهر الماضي، فإن هناك "بين 30 و50 شخصا من أوساط بن علي، خصوصا زوجته ليلى الطرابلسي وشقيقها بلحسن الطرابلسي، سيتمكنون من استعادة الأموال".

ويكفي لمعرفة صورة عن طبيعة شبكة عائلة وأصهار بن علي، أن نعرف أن بلحسن (شقيق زوجة الرئيس التونسي المخلوع) تقدم بطلب عام 2016 إلى هيئة "الحقيقة والكرامة"، التي شُكلت للنظر في ملف العدالة الانتقالية في تونس بهدف المصالحة، وعرض إعادة نحو 350 مليون يورو، لكن المصالحة لم تكتمل، وفي نهاية يناير 2021 رفضت محكمة فرنسية طلبا تونسيا بترحيل الرجل إلى بلاده خشية حدوث خطر "معاملة غير إنسانية ومهينة" له في السجن.

ولم تسلم تونس هي الأخرى من العقبة القانونية المتعلقة بـ"ضرورة إصدار أحكام نهائية"، فقد خصمت الظروف السياسية غير المستقرة والمرتبكة في تونس، في أعقاب رحيل بن علي ثم تولي المنصف المرزوقي، خلفا له، ثم أعقبه الباجي قائد السبسي، ثم أخيرا قيس بن سعيد، من إمكانية بناء تعاون قانوني جاد وملزم مع سويسرا، ناهيك بالاضطرابات السياسية في البرلمان والتنازع بين حركة "النهضة" الإخوانية بقيادة راشد الغنوشي، والقوى المناوئة لها، ما أدى إلى تراجع أولوية ملف الاسترداد أو على الأقل دخوله في سراديب النسيان.

 

ليبيا القذافي

وبغرابة تتناسب وتليق مع مجمل فترة حكم الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، جاءت تطورات قضية ثروته الشخصية وكذلك أموال بلاده، إذ إن المسافات لم تكن محددة على نحو واضح بين حدود كل منهما.

ولعل أحدث إفادة في هذا النطاق تتعلق بموقف "مجلس الأمن"، الذي رفض في 13 فبراير الجاري، طلبا بلجيكيا كان يستهدف "رفع التجميد عن الأموال الليبية، المودعة لدى أحد بنوكها واستقطاع 49 مليون يورو"، تحت دعوى تعويض لإحدى الشركات البلجيكية التي كانت تعمل في ليبيا عام 2010.

وقضية تجميد الأموال الخاصة بالدولة الليبية تعود إلى "مجلس الأمن"، الذي أصدر عام 2011 قراراً حمل رقم 1970 يقضي بـ"تجميد الأصول التابعة لصندوق الثروة السيادي الليبي في الخارج، عقب إسقاط نظام القذافي".

وإذا كانت الـ49 مليون يورور قد تم إنقاذها بقرار أممي، فإن الليبيين لا يعرفون مصير أكثر من 5 مليارات يورو من أصولهم المجمدة، التي تبين اختفاؤها عام 2018 في فضيحة دفعت السلطات البلجيكية لفتح تحقيق، خاصة أن بنوكها وشركاتها تضم نحو 16.1 مليار يورو بشكل إجمالي من أصول الليبيين.

وبسبب الانقسام الحاد في المؤسسات وتشتت ورثته وغياب المستندات وغرائبية إدارة البلاد، فإن الثروة الشخصية للقذافي كانت ولا تزال محل جدل واسع ما بين تقديرات تصل بها إلى نحو 200 مليار دولار، فضلا عن ثروات من الذهب والماس، وتقديرات أخرى تشير إلى نحو 150 مليار دولار، وهو ما دفع شركة أمريكية تأسست عام 2014 إلى إبرام ما تقول إنه عقد مع "المجلس الوطني الليبي" بهدف القيام بمهمة البحث عن أموال القذافي مقابل 10% من قيمتها حال العثور عليها، توفيرا لجهد الدولة الليبية.

وتنقل صحيفة الدايلي بست عن مؤسس الشركة زعمه أنه "عثر على 12.5 مليار دولار من أموال القذافي في مخازن تابعة لمرأب طائرات في جوهانسبرج بجنوب إفريقيا.

وكما كان غياب الرقابة والحكم المنفرد قبل ثورة الليبيين سببا في تجميد وضياع ثروة بلادهم وحاكمهم السابق، فإن الانقسام الواقع الآن يبعدهم حتى اللحظة عن إمكانية الوصول إليهم أو الانخراط في مسار قانوني يسمح بتمكينهم منها.

والآن بعد مضى نحو عشر سنوات باتت تلك الأموال، المصرية والليبية والتونسية، في منزلة بين منزلتين، فلا هي أعيدت إلى الحكومات الحالية لتستفيد منها ولا هي نجت من التجميد فتمكن من أودعوها من استخدامها حتى اللحظة، وبعدما كان التبرؤ منها وإنكارها هو سيد الموقف في بداية أحداث "الربيع العربي" بات التمسك بتلك الأرصدة سمة ومسوغا لجيل جديد يعتبر أن فك التجميد صك براءة.