خروج فرنسا من النيجر.. استسلام أم تكتيك؟

ذات مصر

بعد شهرين من الانقلاب العسكري المناهض لمصالحها هناك، رفعت فرنسا الراية البيضاء في النيجر، وأعلنت إجلاء سفيرها وسحب القوات العسكرية قبل نهاية العام، بعدما كانت تلوح بالدخول في حرب طويلة الأمد، والحفاظ على هيبتها ومكانتها التي تراجعت كثيرًا خلال السنوات القليلة الماضية، خاصة مع توالي الانقلابات في دول الصحراء والساحل.

وجاء إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قراره سحب سفير بلاده والقوات الفرنسية في نيامي بمثابة المفاجأة التي خلفت وراءها تساؤلات كثيرة حول الانسحاب المفاجئ، وهل هو استسلام للواقع أم تكتيك رأت باريس أنه قد يعوضها عن بعض الخسائر الاستراتيجية جراء الانقلاب هناك؟

الجنرال السابق في الجيش الفرنسي فرانسوا شوفانسي، رأى في الخطوة انعكاسا لفشل سياسي وخلل في الحسابات الخارجية من قبل رئيس الجمهورية، وأن باريس فقدت مصداقيتها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، مشيرًا في الوقت عينه إلى أن فرنسا لم ترغب منذ بداية الأزمة باستخدام القوة لفرض العودة إلى الحياة الطبيعية في النيجر، مما جعلها ترفض التدخل لإطلاق سراح الرئيس محمد بازوم وفك الارتباط بالسفارة.

آمال ماكرون الخائبة

علقت عدة صحف فرنسية على إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سحب قوات بلاده من النيجر، منهم صحيفة "لوبوان" التي رأت أن عدة عوامل خيبت آمال ماكرون؛ منها صعوبة تدخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" عسكريًا بغية استرداد السلطة.

أما صحيفة "لوباريزيان" الفرنسية، فرأت في الانسحاب "اعتراف رسمي بالعجز"، وأن الانقلابيين دفعوا باريس لاتخاذ هذه الخطوة لتخسر بذلك موطئ قدم آخر لها في الساحل، مشيرة إلى أنه لم يكن هناك أي شيء آخر يمكن القيام به، مبرزة أنه كان الحل الوحيد منذ البداية، وأن "حرب فرنسا ضد الجهادية قد انتهت رسميا".

استسلام ماكرون

صحيفة "ليبراسيون" قالت إن ماكرون استسلم أخيرا بعد شهرين من المواجهة مع المجلس العسكري الحاكم في النيجر، رافضا خلالهما الاعتراف بالمجلس الوطني لحماية الوطن، ومتجاهلا دعواته لرحيل السفير سيلفان إيت، ليقول أخيرا في مقابلة تلفزيونية، "لسنا هنا لنكون رهائن لدى الانقلابيين"، مضيفا أن الانسحاب سيتم بالتشاور مع المجلس العسكري، "لأننا نريد أن يتم ذلك سلميا".

أما الكاتب الفرنسي بيير هاسكي، فبين أن قرار الانسحاب هو بمثابة اختصار للوقت، مؤكدًا أن ماكرون تجنب به دخول "معركة مستحيلة النصر"، موضحًا أنه رغم خطورة الانسحاب الذي يصفه الكاتب بـ"الدفاعي"، فقد اضطرت إليه باريس خشية التضحية بعلاقاتها بدول إفريقية أخرى.

أهداف أخرى للانسحاب

في مقابل هذه الآراء، رأت صحيفة "واكات سيرا"، أن لماكرون أهدافًا أبعد من الانسحاب، أبرزها تلطيف الأجواء مع المجلس العسكري النيجري؛ لاستعادة بعض الخسائر الاستراتيجية الناجمة عن الانقلاب، مثل إعادة فتح المجال الجوي أمام الطائرات الفرنسية، بعد أن عاق الخطر تحركات فرنسا في عموم دول الساحل.

وتكمن الأسباب غير المباشرة، في سعي فرنسا لبناء صورة جديدة في أفريقيا، والتخلص من سلوك "الغطرسة" الذي يثير نقمة الأفارقة، للحفاظ على مكتسباتها وما تبقى من مصالحها في الغرب الأفريقي.

الوداع الفرنسي للساحل

كانت النيجر آخر الدول في منطقة غرب أفريقيا التي تشهد استقرارًا نسبيًا، قبل أن يقع انقلاب خلط الأوراق وغير قواعد اللعبة، فقد كان ينظر إليها على أنها الأكثر استقراراً في المنطقة، ولم يمر سوى بضعة أشهر على وصف وزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن، لها بأنها "نموذج للديمقراطية"، مستندًا في رأيه حينها إلى نجاح رئيسها محمد بازوم، الوسطي والمؤيِّد للغرب، في الفوز بانتخابات عام 2021 الرئاسية بأكثر من 55% من الأصوات، ليصبح أول رئيس للبلاد يتولى السلطة سلمياً منذ الاستقلال عن فرنسا في عام 1960.

وبالخروج الفرنسي من النيجر، لم يعد لباريس مكان آخر في دول غرب أفريقيا، بعد الانقلابات المتوالية خلال السنوات الثلاثة الماضية في كل من مالي بوركينا فاسو وغينيا، وبدأ القادة الجدد في هذه الدول في اتخاذ إجراءات أوسع من طرد الوجود الفرنسي في بلادهم، فذهبوا إلى إصدار تشريعات لفك الارتباط الكلي بفرنسا، فأخذت مالي تعدل الدستور، لتعود إلى اللغة العربية كلغة رسمية للبلاد، وإزاحة اللغة الفرنسية لتكون في الدرجة الثالثة تمهيدًا لعدم استخدامها مرة أخرى في المستقبل.

وكذلك باتت فرنسا تشهد الهزيمة تلو الأخرى في بلدان كانت معقل نفوذها لسنوات طويلة بعد إنهاء الاستعمار، ليتشكل واقع جديد يرفض التعامل مع باريس والارتباط بها أيًا كان هذا الارتباط.