تنظيم القاعدة كـ"Brand".. قيادة رمزية وأفرع في الشتات المحلي

في يناير من العام الماضي، تلقى تنظيم القاعدة ضربة قوية بمقتل زعيمه في اليمن، قاسم الريمي، ليدخل فرعه الأقوى من الناحية العملياتية في حالة اضطراب كبيرة، غير أن تلك الضربة لم تكن سوى البداية، فخلال الأشهر التالية تساقط عدد أمراء التنظيم، وأضعفت فروعه الإقليمية في مناطق عدة.

ففي شمال إفريقيا، قتل أمير القاعدة في المغرب الإسلامي، عبد الملك درودكال، بغارة جوية خلال يونيو الماضي، وداخل سوريا تعرض فرع القاعدة لخسائر قيادية وحيَّد عددا من قادة القاعدة المخضرمين هناك، وعلى الأرض خسر "القاعدة" معاقله في محافظة البيضاء اليمنية، بينما تآكلت القدرات العملياتية لـ"حراس الدين" في إدلب السورية نتيجة استهدافه من هيئة "تحرير الشام" والطائرات الأمريكية دون طيار.

عبد المالك درودكال

 

على صعيد القيادة المركزية، خسر "القاعدة" اثنين من أبرز قادته، أولهما الرجل الثاني في التنظيم، أبومحمد المصري، الذي اغتيل في إيران خلال أغسطس الماضي، والثاني حسام عبد الرؤوف، المُكنّى بأبي محسن المصري، المسؤول السابق عن الجناح الإعلامي وعضو مجلس الشورى العالمي، الذي قُتل في أفغانستان خلال أكتوبر من العام نفسه، فيما راجت، لاحقًا، أنباء عن مقتل أيمن الظواهري، الزعيم الحالي للقاعدة، ومع أنها لم تتاكد حتى الآن، فإن الاختفاء المريب له عزز الشعور بالمعضلة الحالية التي يعشيها التنظيم.

ووفقًا لتحليل نشره موقع "War On Therocks" للباحثين باراك مندلسون (أستاذ العلوم السياسية في كلية هافرفورد الأمريكية، وكولين كلارك (كبير الباحثين في مجموعة صوفان للاستشارات الأمنية) فإن النكسات التي تعرض لها تنظيم القاعدة على مدار العام الماضي ترجع لسببين أساسيين هما: استمرار الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب، والتي تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وتآكل التماسك التنظيمي الداخلي الذي كان "القاعدة" يحظى به، ما يعني أن القاعدة لم يعد نسيجًا واحدًا كما كان من قبل، إذ تحول إلى نموذج لا مركزي بشكل أكبر، في حين برزت التباينات الموجودة بين قيادة التنظيم المركزية وبين باقي أفرعه.

وعلى سبيل المثال، ركزت القيادة المركزية للتنظيم على مهاجمة الغرب، خاصة الولايات المتحدة، حتى ولو لم تكن تمتلك إمكانيات لذلك، بينما انصب تركيز أفرعها الخارجية على الصراعات المحلية، وهذا لا ينفي أن بعضها خطط لعمليات نوعية ضد الغرب، خاصة فرعها اليمني/ شبه الجزيرة العربية.

 

 

وبالتالي فإن فهم الواقع الحالي والوضع المستقبلي لتنظيم القاعدة يبدو أكثر تعقيدًا من مجرد تقييم تراجعه اللحظي المحتمل أو احتمالية عودته للنشاط والفاعلية، فعلى الرغم من الانتكاسات المتكررة التي تعرض لها، لا يزال لديه فروع فاعلة في شرق إفريقيا، وجنوب آسيا، والشرق الأوسط، كما يتعاون مع غيره من المجموعات الجهادية، ولديه آلاف المقاتلين، كما يحتفظ بمصادر تمويل عالية القيمة بما في ذلك الوسائل الخلاقة، كعمليات الاتجار في المجوهرات والأحجار الكريمة، والعملات الرقمية كالبتكوين.

على الصعيد ذاته، تواصل حركة الشباب الصومالية، المرتبطة بالتنظيم، تنفيذ هجماتها الإرهابية في المنطقة، بما فيها الهجمات عالية التنسيق خارج الحدود، والتي تستهدف بشكل أساسي دولة كينيا (المجاورة للصومال)، وكذلك في منطقة الساحل والصحراء تواصل جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" تمددها الجغرافي وتواصل عملياتها بوتيرة سريعة، ولا يبدو أن الحملة الفرنسية المتواصلة لمكافحة الإرهاب في المنطقة، قادرة على كبح جماحها.

والأمر الذي لا شك فيه أن القاعدة غير كينونته على مر السنوات، فقبل هجمات 11 سبتمبر 2001، كان التنظيم عبارة عن مجموعة صغيرة وهيراركية تضم بضعة مئات من المقاتلين، وفي غضون سنوات قليلة زاد عدد أعضائه أضعافًا، وتحولت جاذبيته العملياتية من استهداف الغرب إلى التغلغل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لكن مع تزايد اعتماده على نمط اللا مركزية ضعفت قيادتها المركزية وسيطرتها على الأفرع الخارجية، وهو التراجع الذي لا يمكن عزوه إلى صعود تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، الذي عانى من نفس أزمة القاعدة المتعلقة بالمركزية واللا مركزية القيادية، خلال العام الماضي.

 

حركة الشباب الصومالية

وساعدت النكبات، التي ألمت بتنظيم القاعدة خلال 2020، في تسريع عملية التحول القيادي، وتحلل الروابط التي تربط القيادة المركزية بغيرها من المجموعات وبقيت مجموعة من الصلات القليلة التي تجمع الطرفين، كالاسم المشترك والتنسيق العرضي بين الأفرع المختلفة، وكما يصف الباحث في شؤون الحركات الجهادية تشارلز ليستر التنظيم بأنه: حركة غير مترابطة بشكل شبكي تضم مجموعة متشابهة فكريا لكنها متمايزة إقليميا، وكل منها يسعى لتحقيق أهداف محلية متمايزة، وبالتالي تحول الدور الذي تلعبه قيادة القاعدة لدور رمزي أكثر منه عملي.

ورغم ذلك، لا زالت العلامة الجهادية (Brand) للقاعدة صدى/ بريق لدى الجهاديين، حتى مع اختلاف التنظيم اليوم عما بناه أسامة بن لادن قبل نحو 3 عقود، وفي هذا الصدد لا يمكن إنكار أن الجهاديين قد حققوا بعض النجاحات في تلك الفترة، فأجبروا الدول الغربية على شن حروب مكلفة في الخارج، وتغيرات مجتمعية في الداخل بما في ذلك المساومة على الحريات المدنية، لكن حتى مع النجاحات التي أحرزتها الحركة الجهادية العالمية، فشل تنظيم القاعدة في تحقيق أهدافه.

ولعل فشل التنظيم يرجع إلى جملة أسباب، منها تآكل القيادة المركزية ومقتل عدد من القادة المخضرمين الذين أسهموا في تأسيس القاعدة، فلو كان أيمن الظواهري على قيد الحياة، فإن اختفاءه طوال تلك الفترة وعدم إصداره نفي حول شائعات وفاته، يزيد من عزلته ويقلل من حضوره وقدرته على توجيه المجموعات المرتبطة به، إضافة إلى إضعاف الوجود الإعلامي للقاعدة، وبالتالي يحد من فاعليته وتأثيره على تلك المجموعات إذا قررت التصرف على نحو لا يوافق عليه، كما أن عملية الخلخلة التي تعرض لها الهيكل القيادي للحركة قلصت عدد الخلفاء المحتملين لزعيم القاعدة، ولم يبق من جيل الرواد المؤسس سوى "سيف العدل" الذي قد يواجه صعوبة في التواصل مع الجيل الأصغر من عناصر التنظيم، كما أن وجوده داخل إيران خلال السنوات العشرين الأخيرة ربما يشوه صورته في أعين القواعد الحركية.

 

 الظواهري وأسامة بن لادن

وتزامن مع حالة تآكل القيادة، تحول القيادة العملية للأفرع الخارجية، فمثلا جندت هذه الأفرع غالبية الأعضاء، وركزت تلك الأفرع على مصالحها الذاتية واستغلال الصراعات المحلية وتعاظمت حالة استقلالها الذاتي، بجانب وجود تفاعل محدود أو انعدام للتواصل بين الأعضاء الجدد ونظرائهم في الأفرع الأخرى، وتراجع القضية المحورية للقاعدة التي تركز على فكرة قتال الغرب الذي تعده العدو البعيد، وهو ما يتضح من الأداء العملياتي لفروع القاعدة، التي لم تركز على الهدف الأساسي للقاعدة المركزية.

وفضلًا عن العوامل السابقة، فقد تنظيم القاعدة اتجاهه الاستراتيجي، الذي تشكل سابقًا كطريقة واعدة للنجاح، تتلافى أخطاء الحركة الجهادية القائمة على فكرة الجهاد الدفاعي (دفع الصائل)، لكن في ظل حقبة الظواهري تخلى التنظيم عن استراتيجيته العالمية مع تركيز الأفرع التابعة له على الصراعات المحلية، ولم تقترح قيادة التنظيم أي استراتيجية لتعظيم الاستفادة من النجاحات في الصراعات المحلية، لتنفيذ الهدف الاستراتيجي للتنظيم والمتمحور حول فكرة مهاجمة الولايات المتحدة والغرب.

ومع ذلك، منع الهدف الاستراتيجي تنظيم القاعدة من إجراء تعديلات جوهرية على خطته لتوحيد الهدف والرؤية أمام جميع أفرعه التابعة، وأسهم في ذلك أيضًا غياب المنظّرين الحركيين اللازمين لصياغة تصور مناسب للقاعدة، بعد فشل مثيله السابق، الذي يركز على استهداف الولايات المتحدة الأمريكية، ورفضه التحول نحو تدشين خلافة مكانية كالتي أعلنها تنظيم الدولة الإسلامية (2014: 2019).

ومن المتوقع أن تؤدي التغييرات الإقليمية لتعافي تنظيم القاعدة، خصوصًا إذا تمكن حلفاؤه "حركة طالبان" من تعزيز نفوذهم في أفغانستان، أو تمكنت أفرعه المحلية في شرق إفريقيا والساحل والصحراء من التوسع والتمدد، بيد أن هذه التطورات قد لا تصب في صالح مجموعة القاعدة المركزية، بل قد تؤتي نتائج عكسية وتحفز الأفرع الخارجية على مزيد من الاستقلال والانفصال عن المركز، كما أن الخبرة السابقة تشير إلى أن التنظيم سيركز على نهجه الذي اتبعه منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في 2011، والذي يعتمد على الاستفادة من الصراعات المحلية وتدعيم العلاقات مع الحواضن الشعبية والقبلية، وبالتالي فإن وجوده سيستمر حتى إشعار آخر، ما يفرض على الولايات المتحدة وحلفائها إعادة تقييم المنهجية التي تتعامل بها مع القاعدة وأفرعه الخارجية، والتي تصنفهم حاليا باعتبارها تنظيما موحدًا.