العملية كيسنجر.. صفقة توفيق بك خطاب مع الحياة (الحلقة الأولى)

أحداث هذه الرواية من خيال مؤلفها وأي تشابه بينها وبين واقع أشخاص أو أحداث هو من قبيل المصادفة الفنية غير المقصودة

( ١ )

"مَهمّة تَحَرٍّ"

ربما تعتقد أني أقحم نفسي في غير ميداني، ما بال ضابط شرطة بالكتابة والأدب والمقال، وكيف ساقته الأقدار للبحث في تواريخ حديثة وبعيدة حول شخص بعينه، في غير قضية يتولاها، ولا جناية يحاول فك ألغازها، ولا محضر يسعى لغلقه واستيفاء إجراءاته.

لا ترقية ستأتي من وراء هكذا جهد، ولا نجمة إضافية على الكتفين.

ربما كانت التجربة..

محاولة تجريب ليس إلا.. استغلال مهارات البحث والتحري لدى ضابط الشرطة في سبر أغوار، الأرجح أنها غير معروفة بالقدر الكافي، وقد يكون لها تأثير بشكل أو بآخر على مجريات أحداث أثرت وتؤثر في معيشة الناس.

بالقطع تعرف أن التحقيقات وكتابة محاضر التحريات جزء من أساسيات عمل ضابط المباحث تحديدا، وفي الكلية كنا ندرس بعض الكورسات في الكتابة، وكان المُحاضر يعطينا نماذج من الكتابات الأدبية والروائية، خصوصا تلك المتعلقة بأدب الجريمة، وأيضا القصص التي تمزج بين الواقع وأسلوب الحكي الرشيق الذي كانت بعض الصحف تعرض من خلاله قصص الجرائم والحوادث الكبرى، خصوصا تلك التي كان يهتم بها الرأى العام، تتناول جوانبها الإنسانية، وليس مجرد الإجراءات القانونية التي تتم مع أطراف القضية. تتجاوز المحاضر والتحقيقات وتدير في زاوية أخرى تحقيقا موازيا تستدعي فيه شهود عيان وتزور موقع جريمة وتسجل مشاهدات وتنسج خيوط اشتباه، وترسم للقارئ صورة كاملة حول الجريمة وأبعادها ودوافعها وأبطالها.

كم كنتُ أرى انزعاج زملائي من هؤلاء الصحفيين وهذه الكتابات التي يتقمص فيها الصحفي دور ضابط المباحث أو وكيل النيابة، لكنني كنت أستمتع بهذا العمل، وأرى أن تعدد المحققين في مصلحة الحقيقة وليس العكس، والصحفي محقق، والباحث محقق، والأديب محقق، والضابط محقق، والقاضي محقق، وكل محقق منهم يُنتج نصا صالحا للقراءة وله جمهوره المتلقي، صحيح أن جمهور القاضي والضابط من أهل التخصص القانوني (المحامون وأطراف الدعوى) لكن النشر وسّع هذا الجمهور بتزايد كبير انتهى إلى أن صار محضر تحقيق (نص) في يد ملايين المواطنين في شاشات الهواتف المحمولة عبر (السوشيال ميديا).

ومن خلال هذا الهاتف الذكي تعرفت لأول مرة إلى (توفيق خطاب) حين بحثت عن اسمه في محاولة أولية للفهم، وأنا في طريقي مع حملة أمنية للقبض عليه، على نحو ما سأحكي لك في الفصول التالية.

 

ربما كان الشغف..

قرأت لكُتاب كثيرين مقدمات روايتهم يتحدثون فيها عن الشغف بالشخصيات، والارتباط بالحكايات، لذلك ربما كان هذا الشغف هو السبب المباشر في إقدامي على هذه المهمة المستغربة، الشغف بالكتابة عن الناس، وهو أمر يستغرقني كثيرًا، وكان يتم لومي عليه في عملى، حين لاحظ رؤسائي أنني فيما أحرره من محاضر تحريات أسهب في وصف الشخصيات التي أتعرض لها، سواء كانوا متهمين أو شهودا أو غير ذلك، أتوسع في الوصف وأبحث خلف تاريخ كل متهم وخلفياته المتنوعة، حتى لو كانت في غير موضوع القضية.. أحد رؤسائي سألني مرة إن كنت أكتب محضرا أم سيناريو لفيلم اجتماعي!

ذات مرة، أسهبت في تشريح قلمي لعدد من المشتبه بهم في قضية كبرى، كتبت (بروفايل) لكل شخصية فيه قدر كبير من الإحاطة والتفاصيل والمعلومات، يمر على النشأة والظروف وعقيدة الحياة، ليستقر عند دوافع الاشتباه وعناصره.

لذلك يسمونني فى مديرية الأمن "الفيلسوف"، لا لشيء سوى أنني أهتم بالجوانب الإنسانية عند مَن أتحرَّى عنهم أو أناقشهم في تحقيقات، وأحب أن أكون على درجة من الإحاطة بتاريخ مَن أناقشه، سواء كان متهما أو شاهدا أو مدعيا أو مُدعَى عليه، لذلك كنت أجتهد في سبر أغوار هذا التاريخ قدر الإمكان، ولم يكن ذلك ترفا في عملي لكنه كان أسلوبا نافعا ومفيدا في كثير من الأحيان.

أذكر في مرة، كنت أحقق في جريمة قتل، وفضلا عن الأسئلة التقليدية للمشتبه بهم والشهود مثل:

  • أين كنتَ وقت وقوع الجريمة؟
  • هل توجد خصومة بينك وبين المجني عليه؟

سألت أحد الشهود أسئلة عن مجموعه في الثانوية العامة؟ وكيف تعرف إلى زوجته؟ ومتى تزوجها؟ وعن اسم طفله.. ومن اقترح اسمه عند ولادته، والده أم والدته؟

ولاحظت أنه والقتيل كانا في دفعة واحدة بالثانوية العامة، وكلاهما كان متفوقًا، لكن القتيل حقق مجموعا تجاوز 97% لحق به كلية الطب، بينما لم يتجاوز مجموع الشاهد 93%، لم تشفع له عند مكتب التنسيق إلا في دخول معهد فني صحي.

وكما كانا تلميذين في فصل واحد، وجارين في بناية واحدة، عملا في مستشفى واحد، وكان الشاهد مرؤوسا للقتيل.

لم تكن تلك معلومات ذات أهمية بالغة بالنظر لباقي المشتبه بهم، هي أشياء عادية ومتكررة، لكن عندما أضفتُ إليها أن الطبيب القتيل كان خطيبا سابقا خلال المرحلة الجامعية لزوجة الشاهد، وأن اسم ابن الشاهد هو ذات اسم القتيل، فكرتُ أن أبحث عن تاريخ هذه العلاقة، وهل توقفت علاقة الطبيب بخطيبته السابقة عند فسخ الخطبة أم استمرت؟ خصوصا أن الزوجة هي مَن اختارت اسم طفلها على اسم الطبيب القتيل.

تسلمتُ هذا المحور وغُصتُ فيه بحثا، حتى وصلتُ إلى أن هذا الشاهد هو الجاني، والدوافع كلها تمتد إلى هذا التاريخ الذي بحثت فيه، وتلك المنافسة بمحطاتها الكثيرة التي بدأت من الشهادة الثانوية، وامتدت إلى فتاة الحي الجميلة في ذلك الوقت، حتى كانت سببا في أن يلقى أحدهما مصرعه على يد الآخر.

ربما كان التحدي..

لا شيء يستفز العقل مثل  تكاثر الأسئلة في ساحته دون إجابات شافية، خصوصا إذا ما انشغل هذا العقل بأفكار بعينها علقت به وتشبثت ونغصت.

فك هذه الطلاسم يمثل تحديا حقيقيا، وحافزا يستحق، وقد وجدت نفسي أمام سيل من المعلومات عن (توفيق خطاب) يجعلك مشدودا للبحث عنه ومحاولة الوصول لإجابات أسئلة كثيرة حوله.

لم يكن الرجل اسما معروفا للناس حتى وقت قريب جدًّا، لكن مساحة الحديث عنه كانت مفاجأة، كيف لرجل لا نعرفه أن يبدو بهذه الأهمية، هو ليس ممن يَصدُق فيهم القول الدارج "أشهر من نار على علم".. لا تتصدر صوره المجلات ولا يتم تداول اسمه في المحافل كافة، باعتباره على رأس القوائم الرسمية لأغنى الأغنياء في مصر، ولا هو أحد رجال الأعمال الذين انتشروا في المنتديات والغرف التجارية وشغلوا مقاعد البرلمان وطلوا من الشاشات حتى ألف الناس وجوههم، حتى حين امتلك محطة إذاعية مهمة لها موقع إلكتروني واسع الانتشار، لم يعرف الناس طبيعة هذه الملكية إلا حديثًا.

نظريا لا يمكن مقارنة (توفيق خطاب) برجال المال والأعمال المشهورين الذين تعرفهم، لكن الضجة التي أثيرت حوله ربما تجعله عمليا كالرجل الأول في الأفلام العربي الذي لا يظهر إلا في نهاية الحكاية، الرجل المهم المؤثر الذي لا يحب أن يشعر به أحد، لكن بمجرد أن يقع في بؤرة ضوء، تتفجر منها مئات الأسئلة والقصص، وكان هذا تحديا يستفز فضولي.

كانت المسافة من لحظة القبض عليه، التي شاركتُ فيها، ولحظة إعلان وفاته في محبسه -قبل يومين من عرضه على قاضي المعارضات لنظر تجديد حبسه من عدمه- مليئة بالأسئلة والمفاجآت التي وضعت هذا الرجل أمامي.. لا تغادر صورته بالكلابشات مخيلتي، ولا يسمح عقلىي بتجاوز اسمه وقصته، خصوصا أن سؤالا كبيرا وعريضا عنه تصدّر النقاشات العامة وعناوين الصحف وبرامج التوك شو وتريندات السوشيال ميديا:

  • هل انتحر توفيق خطاب أم قُتل؟ 

كما بتَّ تعرف، فمثلي لا يمكن أن يكتفي بإشهار تقرير الطبيب الشرعي لإجابة السؤال، ومثلما كان سؤالٌ عن مجموع الثانوية العامة مفتاح خيط لحل لغز قضية قتل الطبيب، فإن أسئلة كثيرة أولية تستحق أن تُطرح في طريق السعي لإجابة سؤال القتل أم الانتحار؟

أسئلة تغوص في جذوره وترصد محطات عمره الأساسية، بحثا عن حل التناقضات بين من يرونه رائدا من رواد الأعمال العصاميين الكبار، ومن يرونه ثمرة فساد كبرى، ربما ظل غير منظور.

ومن هنا كانت رحلتي معه، محاولة للإجابة عن عشرات الأسئلة، التي وجدت بعضها يقفز في وجهي بمجرد أن وقعت بين يديَّ نسخة من مذكراته التي أعدها للنشر ولم يظهرها، وعشرات الكتابات عنه وعن عائلته، التي بدا بعض رواياتها متناقضا مع ما كتبه في مذكراته.

  • هل هو بهذه العصامية التي هنا؟
  • أم بتلك الوصولية التي هناك؟ 

وهل مثله يُقدم على الانتحار.. وما الأسباب التي تدفعه لإزهاق روحه بعد صفقة طويلة عقدها مع الحياة في عقد غير محدد المدة.

مفتاح الأسئلة الكبرى في إجابات الأسئلة الصغرى.. 

لذلك قد تراني مهتما بأسئلة قد تبدو صغيرة وهامشية.. منها على سبيل المثال وليس الحصر:

  • ما أصوله؟
  • كيف بدأ ثراءُ العائلة؟
  • ما دور الخديوي إسماعيل في تكوين هذه الثروة؟
  • هل كان جده الأكبر ثائرا حقا مع عرابي؟
  • لماذا تعدد اسم "توفيق" في العائلة؟
  • لماذا تم فصله من الكلية الجوية؟
  • لماذا رفضت القيادات إعادته للكلية الجوية؟
  • لماذا وصفه زميله بالكلية الجوية بأنه كان "مشروع جاسوس"؟
  • هل بدأ رحلته في عالم الأعمال عصاميا؟
  • ما دور شبكة "الأونكلات" العائلية في نجاح مشروعاته الأولى؟
  • متى بدأت علاقته بأمريكا وإسرائيل؟ وأيهما جلبت الأخرى؟
  • هل تبنته المخابرات الأمريكية في عالم الأعمال؟
  • لماذا امتلك محطة إذاعية وكيف استثمرها في أعماله؟
  • لماذا استعان بإسرائيليين في شركاته ومحطته الإذاعية؟
  • هل قام بتسويق منتجات المستوطنات الإسرائيلية في العالم العربى؟
  • ما سر البرقية التي أرسلها لـ"بن جوريون"؟
  • لماذا حلق له جده شعره "زيرو" وأمر بعقابه وحبسه في غرفته 3 أسابيع؟
  • لماذا كان يزوره السفراء الأمريكان في مكتبه؟
  • مَن المرأة سيئة السمعة التي أنقذه منها عمه "كمال بك خطاب"؟
  • هل كانت امرأة سيئة السمعة فعلا؟
  • لماذا يرتاد بارات الزمالك، ويفضلها على بارات الفنادق الكبرى؟
  • لماذا يعيش مديونا رغم ثرائه وتكدس أرصدته في البنوك؟
  • لماذا فصل شقيقه من إدارة محلات السوبرماركت التي يمتلكها؟
  • لماذا سجل في مذكراته أعمالا خيرية وأصر على ذكر أسماء من عطف عليهم؟
  • لماذا يتفاخر بواجبه في الإنفاق على علاج والديه؟
  • هل منح معاشا لمؤلف كبير بعد رحيله حبا فيه، أم حبا في الخير، أم مجاملة شخصية عامة؟
  • لماذا استعان بمحامٍ بريطاني لتوزيع تركته في حياته على بناته؟
  • هل حاول حرمان أشقائه من مشاركته بناته الميراث؟
  • لماذا يتهمه كثير ممن يعملون معه بالنذالة والبُخل وأكل الحقوق؟
  • ما تفاصيل المشاجرة بينه وبين رئيس بنك هدده بالسجن؟
  • كيف آلت إليه أرض المدينة الجديدة التي بناها؟
  • هل موّل سياسيين وأحزابا؟
  • لماذا أنفق بحماس على شيخ حلل له النبيذ؟
  • كيف بنى قصره الريفي على ضفاف النيل مباشرة أقصى شمال الجيزة؟
  • لماذا يشتكي من رفض أهالي قريته عمل بناتهم في قصره؟ ولماذا يعتبر ذلك إضرارًا بالاقتصاد الوطني؟

كثيرة هي الأسئلة، وتلك بعضها ليس إلا، ولا يوجد سؤال أقل أهمية عن غيره.

هي لعبة "بازل"، قطع إلى جوار بعضها تُكوّن في النهاية الصورة الكاملة، لكن إجابات تلك الأسئلة وغيرها ربما لا يعطيك الصورة الحقيقية، لكنه على الأقل يقربك منها، أو يساعدك في صوغ ملامحها الأساسية.

ما ستجده إذن في الفصول التالية ليس مذكرات توفيق خطاب.. إنما روايتي المنطلقة من مذكراته التي سقطت في يدى حين شاركت في مداهمة منزله مع القوات للقبض عليه، مصادري في هذه الرواية، إضافة إلى ما خطَّه توفيق خطاب بيده، ما خطه عمّه الذي أشرف على تربيته، وكتابات تناولت تاريخ عائلته، ومقابلات مع شهود عيان ورد ذكرهم في بعض الحوادث والمواقف، وصحف ووثائق ومقالات وشهادات، ومدائح ومذمَّات ومحاضر وأحكام قضائية، واستنتاجات، حاولت أن أحقق فيها قدر الإمكان قواعد البحث والاستقصاء السبعة، المتمثلة في:

(1) كشف جديد (2) إتمام ناقص (3) شرح غامض (4) اختصار طويل (5) جمع متفرّق

(6) ترتيب مختلط (7) تصحيح خطأ.

لا أستطيع أن أقول لك إن ما وصلت إليه يمثل الحقيقة أو الصورة الكاملة، ربما أصبتُ، أو جانبني الصواب والتبستْ عليَّ مواقف أو غابت عني حوادث وأفلت مني خيطُ بحث، وفسد استنتاج.

 لا أنصحك أن تتبنّى أحكاما قطعية من وراء ما تقرأ، تعامل مع هذا النص كعمل فني مجرد، هدفه إمتاعك وتحفيز عقلك على التفكير، لا فرض رأي عليك.

وتذكر دائما.. هذه روايتي، وليست رواية "رقيب وعتيد".    

رائد شرطة/ أحمد المصري