محمد مصطفى موسى يكتب: حزن بالكتابة المسمارية

ذات مصر

عيناه تبحثان في سطور الخطاب، عن كلمة منها، كما يبحث عصفور جائع عن حبة قمح، لا يشتهي إلا كلمة، ترش على عروق يديه النافرة، من وهنٍ، ومن أرقٍ، زخة سكينة، فتطفئ جحيمًا مصهورًا له شهيق وهو يفور، تحت قفصه الصدري.

نعم.. جحيم له شهيق، منذ فوجئ بأن القيود الحديدية تطوّق معصميه، والعُصابة القذرة الكريهة، تُغمِّي عينيه.. منذ بات ليلته الأولى "مُكلّبشًا" إلى الجدار، حتى رأى الأسفلت بعد ثمانية شهور.

الكلمات ترتمي على السطور، أمام عينيه الخضراوين، وقد خالط بياضهما حمرة.. ترتمي لا رمق فيها، كلمات لا حس، ولا نفس.. إنه لا يجد زفير أو شهيق شوق في سطورها، المفردات مبحوحة الصوت، والفواصل على هيئة قفل الزنزانة.

بعض الكتابات باردة، كنظرة مستوطن متعجرف في الأرض المحتلة، كخطبة نازية تبعثر الأكاذيب، وتحقن الحمقى بمشاعر التفوق العرقي الفظة والغبية والمتطرفة معًا، كوجه مندوبة أمريكية في الأمم المتحدة، تستخدم حق النقض "فيتو"، فتسجل المنظمة الدولية القرار، بريشة مغموسة في دماء أطفالنا في فلسطين.

هل يبثها الشعور بالقلق في رسالته التالية؟

ما من جدوى فيما يظن، سيأتيه الرد باردًا، كجدران محبسه في الثلث الأخير من الليل، ليس به طاقة تعينه على تحمل المزيد من البرودة، إن أعصابه تحت الصفر، وقلبه الذي غزلته الثقوب، لن يقوى على انخفاض الحرارة ولو درجة واحدة، إن برد الزنزانة يقضم اللحم والعظم، يمرق في الرئتين كسهم أفريقي، يستعمر كجيش تتري، خلايا العقل، ومسام الجلد.

وماذا لو كانت شكوكك خاطئة؟

هذا وارد أيضًا، لكن بعضًا مني يحس إحساسًا عميقًا، أن شيئًا ما قد حدث، التأويلات تتعدد، والاحتمالات لا نهائية، غير أني أستشعر طيفًا من الدبلوماسية، في خطابها، ليس لدي تعليل للأمر، ما أعرفه أنني أكره وجوه الدبلوماسيين، إنها شمعية، بل إنني لم أنبهر إذا تجولت في متحف الشمع اللندني، أكره الشمع، أكرهه مزروعًا في تورتة عيد ميلاد، وأكرهه في الجنازات الكنسية، لم أكن من الأطفال الذين عوقبوا بالشمع المصهور، لم أتلق هذا العقاب، لكني تلقيت علي يدي أبي، اللتين أحبهما، وأقبلهما فتفيض منهما الرحمة، وسائل عقاب أخرى.

أظنني الوحيد الذي يحس لمسة أبيه على هذا النحو.

كانت نظرة من عينيه، في فراق مبكر، إذ عدت من اغتراب طويل، إلى اغتراب أعمق، بعد الثانوية العامة، وكانت دمعات حارة، وهو يقبلني بحنان لم أحسه منه من ذي قبل، وكانت شفتان تنبسان، وذقن ينقبض في لحظة وداع مكثفة: "أمانة الله لا تدخن على الريق".

 

عندئذٍ أحس أن أباه يحبه، فارتمى مراهقًا متعطشًا للحنان، في صدره وأجهش في بكاء باغته كإعصار نوح.. وعندئذٍ صارت كل صفعة قبلة، وكل لطمة قبلة، وكل ضربة بخيزرانة عمياء قبلة.. إنه الحب الذي ينقي القلب، كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس.

 

 

إنه لا يريد الكثير، فالحب يجعل القليل كثيرًا.

 

الخطاب لم يخلُ من عبارة شوق ما، لكن شحوبًا فيها، شحوبًا لا ينبع من منطوقها، لكنه شحوب عميق، يأتي من داخلها غير الملموس، شيء سري ما يقول له ذلك، العبارات ثلجية ميتة، ووارد عقلانيًا أنها ليست كذلك، لكن لماذا يحس تلك الغصة العميقة في حلقه؟ ما سر ذاك الانقباض في صدره؟

محض إحساس، نعم.. بعض الأحاسيس أقوى من اليقين المرئي، لها قوة حضور، أشد من حضور الشمس في منتصف أغسطس، وأطول من نوبات قطع الكهرباء الرسمية، في أحياء القاهرة الشعبية.. بعض الأحاسيس تتملك قلوبنا من دون أن نعرف لها تأويلًا.

الحب أرقاها على الإطلاق، وأكثرها رهافة إنسانية، الحب هذا الوهم الكبير، الكذبة الصادقة، وفق تعبير شاعرنا محمود درويش، هو الإحساس الأعظم من العقل.

لو سألت حبيبًا عما يعجبه في حبيبته، لقال بصدق فيه براءة ساذجة: شعرها الخشن.. لا تندهش، لقد صعدت إلى عينيه خواطره، أي أحاسيسه، ولواعج قلبه.

قد يجتمع ألف رجل، على أن أسوأ ما في ملامح امرأة ما عيناها، لكن رجلًا واحدًا يراهما "سبحان المعبود" و"فمها مرسوم كالعنقود".. وعندئذٍ يتحقق الاكتفاء الوجداني.

على الضفة الأخرى، تسألها ماذا يعجبك فيه؟ فتقول: صلعته.. تلك التي حولت وجهه المدوّر مستطيلًا، أو خاصرته التي ذابت في كرش مهول، وهكذا تراه هي بإحساسها، وعندئذٍ يتحقق له الاكتفاء الوجداني.

مجددًا.. كيف يواجه إحساسه أن شيئًا ما قد حدث؟

إن السجن لم يكسره، لكن هل "انكسر جوانا شيء"؟

سينام إن نجا من الأرق المزمن، وهو يتمتم بآيات الحكيم: "ربي إني مسني الضرُّ، وأنت أرحمُ الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرِّ، وآتيناهُ أهله، ومثلهم معهم، رحمةً من عندنا، وذكرى للعابدين"، نعم يا رباهُ، لقد صدّقت الذكرى، ثم ستفتر عيناه عن دموع حارة سيكبحها، كيلا يحس بها أحد المساجين، ليس إنسانيًا أن أُصدّر لهم الحزن.

تشتعل في عروقه المعارك، تخطفه الظنون إلى بطن الحوت، تتوقف عقارب الثواني، من برج القاهرة إلى ساعة بيج بن، ومن فنار الإسكندرية إلى الكاتدرائيات الإيطالية، إلى تمثال الحرية، إلى برج الشيخ زايد، إلى معابد بوذا، إلى قصر الحمراء، ومن مطار هيثرو إلى ميناء هونج كونج.

إنه السجن.. إنه المساء الذي يهبط فيه الحزن، لأنه حزن ضرير، حزن عاجز، يتعثر في حفر الأسى، ويغرق في ماء الدموع.. حزن يحفر في شرايين القلب "كتابته المسمارية".