هشام النجار يكتب: السادات وأحمد الطنطاوي والمشير طنطاوي وضياء الحق!

ذات مصر

بصرف النظر عن كل شيء، فالمقارنات مفيدة للسياسيين والكتاب والمفكرين والمثقفين... إلخ (وللحكام والمعارضين معًا)، وقد تزاحمت في هذه الآونة وفرضت نفسها فرضًا؛ حيث لا مفر منها لاستخلاص الدروس والعبر، ولإعطاء رجال المواقف الصعبة والمناضلين الكبار والقادة العظام حقهم من التقدير والتوقير، ولكي تتضح بعض المواقف والشخصيات والكيانات والممارسات العابرة الطارئة -التي قد ينفخ فيها البعض- آخذة أكبر من حجمها الحقيقي.
نحن أمام مستويات عديدة من المقارنات، ونستطيع أن نستدعي تجربة الرئيس الراحل أنور السادات مع جماعة الإخوان على خلفية ما جرى تداوله بشأن إعلان المرشح الرئاسي أحمد الطنطاوي ترحيبه بعودة جماعة الإخوان للمشهد إذا تم انتخابه رئيسًا.

قد تبدو المواقف قريبة ومتشابهة من جهة توظيف جماعة أو مجمل التيار المعروف أيديولوجيته وأفكاره لتحقيق أهداف محددة ضد خصوم سياسيين؛ لكن الظروف مختلفة تمامًا والشخصيات مختلفة، وإذا كان للرئيس السادات ما شفع له من إنجازات هائلة على رأسها الانتصار على إسرائيل واسترداد الأرض ومحو عار هزيمة 67م، فما هو منجز المرشح المحتمل أحمد الطنطاوي؟

الرئيس السادات بكل ما امتلكه من تاريخ ومكانة ومن دهاء سياسي اعترف في النهاية بأنه أخطأ خطأً شنيعًا عندما أعاد جماعة الإخوان التي انقلبت عليه وخدعته وحرضت ضده وضد نظامه وتسببت في تأجيج الفتن الطائفية بين المسلمين والأقباط والتغرير بالشباب والفتيات، وفي تسخين الجهاديين المسلحين لمستويات إطلاق النار عليه في المنصة.
قال الرئيس السادات عن تعاونه مع الإخوان بعد فوات الأوان: (أنا كنت غلطان)؛ فهل يملك المرشح أحمد الطنطاوي (مع كامل احترامي) ربع دهاء السادات ووزنه السياسي ليحول دون تحول الإخوان البطيء الخفي من دعوية إلى سياسية ومن سلمية إلى عنفية ومن حليفة إلى مُحرضة ومن خلايا صغيرة مبعثرة إلى وحش ضخم، ومن ادعاء المَسْكَنة والضعف في البدايات إلى التغول والتمدد في الفراغات وفي المؤسسات والهيئات والجامعات والنقابات في النهايات، وصولًا إلى التمكين النهائي والقبض على الرئاسة والبرلمان عندما تسنح الفرصة؟

لن أطيل في هذه المقارنة رغم أنها ثرية بالمفارقات والدروس؛ وأركز فقط على درسها الختامي؛ فالحال الذي أُعِيدَت به الجماعة كجمعية دعوية في السبعينات بعد أن أُخرِج قادتها من السجون وأُعِيدُوا من الخارج، ليس كالحال الذي انتهت إليه في نهايات عصر الرئيس السادات (سياسية متعالية منتفخة متكبرة زاعقة محرضة ومتحالفة مع الجماعات المسلحة، ناسجة خيوط التمدد لتحقيق أهداف لا تمت بصلة للدعوة المتجردة لله ونشر التربية والثقافة الإسلامية القويمة، وفق الاتفاق المبدئي مع الرئيس الشهيد المغدور).

أخيرًا في هذه المقارنة أذكر ما قاله المفكر الراحل أستاذ الفلسفة الدكتور فؤاد زكريا في كتابه (الحركة الإسلامية بين الوهم والحقيقة) أن ما دفع الإخوان للتحريض على الرئيس السادات والانقلاب ضده وتحريك خلايا الجهاديين لاغتياله، رغم أنه هو من فتح أبواب السجون ليخرجوا وسمح لهم بحرية التحرك والنشاط، هو أن الرئيس الشهيد بدد حلمهم الكبير النهائي في الهيمنة المتدرجة أولًا من وراء ستار وتاليًا بكل وضوح وفي العلن، عندما أجرى الإصلاحات الخاصة بالمرأة وغيرها.

فهل يدرك المرشح أحمد الطنطاوي أبعاد التعامل والتعاون مع الإخوان التي تحاول استخدام السياسيين كأدوات ومحطات في طريق هيمنتها المتدرجة على المشهد، وأنها قد تعقد صفقات مع البعض لكنها تضمر أشياء يجهلها الكثيرون، وفي سبيل الوصول لما تخفيه لا تتورع عن إزاحة من خدمها وأنقذها، ليس فقط بالإقصاء والتحييد السلمي إنما بالدم والغدر مسبوقًا بفتاوى التكفير والإخراج من الملة؟

مقارنة أخرى تتطلب منا استدعاء التجربة الباكستانية المهمة؛ فذو الفقار علي بوتو أيضًا قال: (أنا لا أغادر بلادي، ولماذا أغادر، فليغادروا هم)، وركبت الجماعات الإسلامية القوية موجة المظاهرات الشعبية ضد حكمه.
كان ضياء الحق ضابطًا محل ثقة بوتو ورهن إشارته، فقدمه على غيره وأصدر قرارًا عام 1977م بترقيته إلى رتبة الجنرال وعينه قائدًا للجيش رغم أن هناك جنرالات كثيرون أقدم منه يستحقون المنصب بجدارة، لكن بوتو -لأمر في علم الغيب- أراد ضياء الحق!

استغل ضياء الحق الفرصة واستثمر الفوضى والمظاهرات وانقلب على الرجل الذى قدمه على غيره من قبل وعينه جنرالًا وقائدًا للجيش وقربه وأنعم عليه.

ولكى يتخلص ضياء الحق من هاجس عودة (بوتو) بسبب جماهيريته الكاسحة، حرك دعوى قضائية ضده تتهمه بتدبير جريمة اغتيال أحد معارضيه، وقدمه للمحاكمة، ورغم مناشدات زعماء العالم لضياء الحق بالعفو عن رئيسه السابق وصاحب الأفضال عليه، إلا أن الذي أمر القاضي بإصدار حكم الإعدام رفض العفو، ونُفذ الإعدام في الزعيم الباكستاني ذو الفقار على بوتو وسط ذهول العالم وصدمة الباكستانيين.

عض ضياء الحق يد رئيسه وقت ضعفه وقابل معروفه فيه بخيانة وقاد انقلابًا عسكريا ضده واستولى على السلطة وحولها إلى حكم (عسكري إسلاموي) لأكثر من عشر سنوات حتى اغتياله في تحطم طائرة في أغسطس 1988م.

لم تمنع العلاقة القوية التي جمعت المشير طنطاوي بالرئيس الأسبق حسني مبارك من الوقوف في صف الحقوق والانحياز إلى الشعب فلم يطلق نيرانه عليه، لكنه في نفس الوقت لم يَقُد انقلابًا عسكريًا ضد الرئيس (الضعيف حينها حسني مبارك) استغلالًا للغضب الجماهيري كما فعل ضياء الحق مع ذو الفقار بوتو في باكستان.
آخرون في موقف كهذا سيفكرون في المقام الأول في الانفراد بالسلطة وإحراز جماهيرية على حساب رئيس جمهورية مغضوب عليه من الشعب، لكن ظل المشير طنطاوي يلقب الرئيس مبارك بالسيد الرئيس، وانتصف للشعب في الوقت ذاته ولم يخدعه سيرًا في المسار الوسط بين طرفي المعادلة في مرحلة ضخمة التحديات والمخاطر تحتمل شتى السيناريوهات.
بعدما أعدم ضياء الحق رئيسه ذو الفقار على بوتو، أعلن أنه سيطبق الشريعة الإسلامية وصلى في مساجد الجماعات الإسلامية وقرب أعضاءها ورجم بعض الزناة وطبق بعض الحدود، ليحرز جماهيرية في أوساط المعارضة الإسلامية.
وفرح الإسلاميون الباكستانيون بالديكتاتور الذي طبق بعض الحدود، فما الفارق إذن (والسؤال من عندي) بين حاكم يُغطى الفساد بقشرة إسلامية مزيفة وآخر يغطيه بقشرة ديمقراطية مزيفة؟
كان تطبيق ضياء الحق للشريعة الإسلامية شكليًا، اقتصر منها على تطبيق بعض الحدود وترك عصابات وتجار المخدرات ومافيا التهريب والنهب والإجرام والسرقة وقطاع الطرق، واستخدم التعزير ضد الصحفيين الذين ينتقدون سياسته، وأسندت إلى عضو من أعضاء الجماعة الإسلامية بباكستان (إخوان باكستان) حقيبة الإعلام، إلا أنه فشل في تغيير شيء فيها لهيمنة الفاسدين وشلة المنتفعين عليها.

وكان لجوء ضياء الحق للمعارضة الإسلامية ورفعه شعارات إسلامية لمجرد تثبيت سلطته وتعزيز وضعه السياسي، وليس لرغبته في الإصلاح والنهضة ببرامج (إسلامية مقاصدية).

المشير حسين طنطاوي لم يفعل أيًا من ذلك؛ لم ينقلب ضد الرئيس ولم ينفذ فيه حكم الإعدام ليستولي على السلطة ولم يستخدم المعارضة لمصلحته، ولم ينافق المعارضة التي قامت بالثورة ولم يتقرب من الإسلاميين ليصعد على أكتافهم إلى كرسي الحكم، محاولًا المكوث على رأس السلطة طوال حياته عبر تقديم ما لم يقدمه السادات رحمه الله للإخوان في مصر، على مستوى التمكين لمظاهر الحكم الديني.

المشير حسين طنطاوي قائد عسكري كبير ومرموق، قدم بطولات مشهودة وموثقة في حرب أكتوبر، ووصل إلى قيادة الجيش عن استحقاق وجدارة، وهو صاحب تاريخ عسكري مشرف وبطولي، قاد البلاد في أخطر مراحلها خروجًا بأقل الخسائر في بنيتها وتماسك مؤسساتها وأركان قواها الرئيسية – وقال يومها (يومًا ما سيأتي ونكشف حجم ما كانت تواجهه مصر من مؤامرات ومخططات لإسقاطها).

كان سقوط جماعة الإخوان الحقيقي مع إقالة المشير طنطاوي من منصبه كقائد للجيش، وهو الذي أسهم في إفشال مخطط إسقاط الدولة محافظًا على توازنه الذي صانه من استغلال الفوضى وضعف الرئاسة فيما يشبه السيناريو الباكستاني، والأهم أنه لم (يُماين) مع الإخوان كما فعل ضياء الحق مع الجماعات الإسلامية الباكستانية، منحازًا مع عموم الجيش لصوت الشعب الصادح بالتغيير، في المرة الأولى ضد حكم الرئيس حسني مبارك وفي المرة الثانية ضد حكم جماعة الإخوان.

وفي ظروف مختلفة تمامًا بعد عقد كامل من الفوضى وبعد استعادة الدولة المصرية تماسكها وبعض قوتها وحضورها على المسرح الإقليمي والعربي والدولي، وفي ظل ضعف وتراجع الإخوان، يُعلن المرشح أحمد الطنطاوي أنه يرحب بعودة الجماعة، عصفًا بكل شيء؛ ليس فقط بأخلاقيات احترام الدم المسفوك وتضحيات أبناء الوطن في مواجهة جماعات التكفير والإرهاب انحيازًا للدولة ومؤسساتها وحفاظًا على تماسكها، إنما أيضًا بحسابات الواقع جريًا وراء وهم حيازة السلطة صعودًا على أكتاف الإسلاميين.

فارق كبير جدًا (إذا كانت تلك هي طريقة تفكير المرشح أحمد الطنطاوي) بين المشير حسين طنطاوي من جهة، والمرشح الرئاسي المحتمل أحمد الطنطاوي وضياء الحق من جهة أخرى؛ فاللعب بورقة الإسلاميين لتحقيق مطامع في السلطة عاقبته وخيمة.

قد يتوهم الطرف الذي عقد الصفقة المُريبة مع الإخوان أنه استفاد شيئًا في مرحلة ما، لكنه سيخسر لا محالة على المدى المتوسط والبعيد، والخاسر الأكبر هو المجتمع، وهي الدولة التي ستتعرض لهزات طائفية وأيديولوجية قاسية، من المرجح أن تنزلق معها إلى الهاوية إن لم يقيض الله لها حاكم كاريزمي داهية محنك، كما كان الحال مع الرئيس السادات.. ما يدفعني للمرة الثانية لأسأل: هل يمتلك الأستاذ أحمد الطنطاوي ربع كاريزما ودهاء الرئيس السادات ليصمد بالدولة (إذا صار رئيسًا) في وجه تداعيات تحالفاته واختياراته؟