الدكتور عمار علي حسن يكتب: علاقة الدين بالدولة.. التجربة الإندونيسية

ذات مصر

لا تخطئ عيناك أبداً أنك ذاهب إلى أكبر دولة مسلمة على وجه الأرض حين تقتحمها أجساد ضامرة لنساء ملفوفات في ملابس وسيعة فضفاضة يملأن صالة الانتظار بمطار الدوحة.

 ولكن حين تحط الطائرة في مطار جاكارتا وتنطلق الحافلة في شوارعها الوسيعة النظيفة، التي تمرق بها سيارات يابانية من أنواع مختلفة، ترى عالماً آخر متنوعاً، فيه رجال قصار في الغالب الأعم ونساء سافرات ومحجبات، وبيوت ذات أسطح مائلة تستقبل مطراً طوال السنة تقريباً، وبنايات شاهقة، تحتضن متاجر دشنتها العولمة، لتجذب الطبقتين العليا والوسطى، وتفتح باباً للاغتراب في بلد يتسم أهله بالبشاشة والسماحة والسكينة والإقبال المفرط على الحياة.

 أنت هنا أمام تجربة شبيهة بالتجربة المصرية في الستين سنة الأخيرة، وليس بالطبع في آلاف السنين التي دب خلالها الآدميون على ضفاف النيل. سوكارنو يقابل عبدالناصر، حيث الاستقلال والبناء والعدل الاجتماعي والأحلام العريضة والاستبداد المقنع، وسوهارتو يقابل مبارك حيث التبعية والعجز والفساد والطغيان والترهل. 

سوهارتو قامت ضده مظاهرات تطالب بالإصلاح في عام 1998 فأسقطته وبقي نظامه ولكن إصرار الناس على تحصيل الأفضل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية حول الثمار إلى ثورة كاملة، لاسيما بعد الخروج التدريجي للجيش من الحكم. أما مبارك فقامت ضده ثورة عظيمة عام 2011 فسقط أيضاً وبقي نظامه يحاول أن يحول ثمارها إلى حركة إصلاح متدرج، ولكن الحكم على النتائج النهائية والكلية ليس الآن بأي حال من الأحوال. 

ذهبت إلى جاكارتا للمشاركة في مؤتمر عن "الإسلام... الدولة والسياسات" بدعوة من "معهد السلام والديمقراطية" التابع لجامعة أوديانا، فسمعت من أساتذة العلوم الإنسانية هناك شهادات وإفادات مبهرة عن "التمازج بين الإسلام والثقافة التقليدية" وعن الدولة "اللاعلمانية واللادينية التي تعطي الدين وزنه في الحياة وليس في السلطة" والتي يثبت وجودها على سطح الأرض في حد ذاته كذب مفهوم "الدولة الحارسة للدين" و"قوة الدين في حد ذاته كي يحرس نفسه" 

الإسلام لم يدخل إلى إندونيسيا بالفتوحات وإنما جاء في ركاب التجارة والتسامح وقوة الحجة وصفاء العقيدة، فدافع عن نفسه دون وصاية من ملك أو سلطان. 

هناك تجد التدين ظاهراً في سلوك الناس وليس في أزيائهم وادعاءاتهم على رغم أن "الشعب الإندونيسي لا يعتبر الإسلام أساس قيام الدولة" وفي الوقت ذاته لا يجد غضاضة في "تطبيق بعض أقاليم الدولة للقوانين الإسلامية" ولكن بشكل عصري بعيداً عن أضابير الكتب القديمة وخلافات فقهاء الزمن الغابر، وبصيغة تتعانق فيها الثقافات المحلية مع مقتضيات الشرع في انصهار عجيب، وبطريقة تحول فيها الدين إلى طريق لحل المشكلات لا وسيلة لخلقها.

 وفي إندونيسيا يتجاوز أعضاء جمعية "نهضة العلماء" الإسلامية 45 مليون عضو و"المحمدية" نحو 35 مليون عضو، ولكنهما لا تلزمان أتباعهما بالتصويت في الانتخابات لصالح أحد بعينه، لأنهما تؤمنان بحرية الفرد، ولا تجبرانه وفق مبدأ "السمع والطاعة" الذي يسلبه إرادته وقراره. 

وتسعى الدولة، التي تتكون من 13 ألف جزيرة عائمة في المحيط الهادي، إلى جعل تنوعها مصدراً للقوة وليس للضعف والتفكك، ولذا كان عليها أن تبدع صيغة تحكم علاقة مستقرة بين سكانها الذين ينتمون إلى 300 عرق ويتحدثون 250 لغة ويدينون بعدة أديان أولها الإسلام ويدين به 86,1% ثم البروتستانت 5,7% والكاثوليك 3% و1,8% هندوس، وهنالك أيضاً 3,4% يعتنقون معتقدات أخرى. ومن أجل المحافظة على وحدتها صاغ الرئيس سوكارنو عام 1945، وعقب انتهاء الاحتلال الياباني مباشرة، مبادئ خمسة لتحكم دستور الدولة تسمى "البانكسيلا" التي تعني بالعربية "كلمة سواء" جاءت على النحو التالي: 

ـ الإيمان بإله واحد. ـ إنسانية عادلة ومتحضرة. - وحدة إندونيسيا - الديمقراطية تقودها الحكمة الداخلية في توحد ناشئ من المداولات بين الممثلين. - العدالة الاجتماعية لجميع أفراد الشعب الإندونيسي. 

ولا تعرف الحياة السياسية الإندونيسية في الوقت الراهن أي احتكار، فالانتخابات التي جرت في 9 إبريل 2009 توزعت فيها حظوظ الفائزين بشكل فيه قدر كبير من التوازن فالحزب الديمقراطي لم يحصل سوى على 20,9% وبعده جاء حزب جولكار بـ 14,5% وهكذا. 

تجري الانتخابات في سلاسة تامة، إذ إن عدد المقترعين في اللجنة الواحدة لا يزيد عن 300 شخص، ويشرف عليها سكان كل منطقة بأنفسهم، في شفافية تامة.

 ويتوجب على المرشحين للرئاسة أن يمروا باختبارات طبية دقيقة، بما فيها اختبار الذكاء، بعد أن ابتليت البلاد برئيسة غير متعلمة ورئيس ضرير عقب سقوط سوهارتو.

 ويبلغ عدد السكان 248,2 مليون نسمة، معدل نموهم 1,04% فقط، وأكثر من 90% من السكان يقرأون ويكتبون (94% للرجال و86,6% للنساء) أما الدخل القومي الإجمالي فيصل إلى 1,1 تريليون دولار، ومعدل النمو الاقتصادي بلغ 6,4% العام الماضي بعد أن كان 4,6% فقط عام 2009، ولا يزيد معدل البطالة عن 6,7% ومعدل التضخم عن 5,7%، ونسبة من هم تحت خط الفقر عن 13,3% من عدد السكان. 

ويتسم اقتصاد إندونيسيا بالتنوع إذ يسهم القطاع الصناعي بـ46% منه وقطاع الخدمات 39,1% ثم الزراعي بـ 14,9%، وهي تنتج ما يربو على مليون برميل من النفط يوميّاً، ويصل إنتاجها من الغاز الطبيعي إلى نحو 83 مليار متر مكعب من الغاز سنويّاً. 

ويزيد احتياطي البنك المركزي لديها من النقد والذهب على 136 مليار دولار، ويصل معدل الاستثمار إلى 32,3% من الدخل الوطني، ولكن الدين الخارجي يزيد على 158 مليار، ولا يزيد عدد من يستخدمون شبكة الإنترنت عن 20 مليوناً، وإن كان عدد خطوط الهاتف المحمول يزيد على 220 مليون خط، والهاتف المنزلي 38 مليوناً. 

لقد تحدث الإمام محمد عبده حين ذهب إلى أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر مؤكداً أنه وجد "إسلاماً بغير مسلمين" وفي إندونيسيا هناك "إسلام بمسلمين" ينصرف إلى الجوهر ويتفاعل مع مقتضيات العصر، فلا تجد الشوارع مزدحمة بأصحاب اللحى ومرتديات النقاب بل تجدها عامرة بالسلوك القويم والرضا والاعتزاز بالدين والرغبة المتجددة في تحسين شروط الحياة.