محمود عبد الحكيم يكتب: الطوفان وتراكم القوة.. ورقة الجنوب الفلسطيني على الطاولة

ذات مصر

في هذه اللحظات ينفّذ كل المستوطنين، تقريباً، التزاماً بالملاجىء ومتابعة دائمة لتوجيهات الحكومة. بعد عامين من معركة سيف القدس، التي فرضت وضعاً مشابهاً بكامل أرض فلسطين، لا المستوطنات وحدها، وكانت أول تطبيق كبير، ومتماسك، لمفهوم وحدة الساحات، حين فعّلت غزة الصواريخ، وكذلك لبنان، لوقف اعتداءات الاحتلال في القدس، واجتاحت الضفة سلسلة عمليات، واشتباكات جماهيرية، مع احتجاجات واسعة للكتلة الفلسطينية وراء الخط الأخضر. 

اليوم تمارس المقاومة فاعلية أكثر نوعية، أبعد من الصواريخ، تفتح ملفّ الأرض والسيادة، وتتجاوز أطراً، جغرافية وسياسية وعملياتية، باتت تقليدية ويمكن تجاوزها بالتراكم القائم.

 

لم يتضح بعد كامل تفاصيل الضربة الأولى، الفاتحة، لمعركة طوفان الأقصى، بقدر ما تشير سرعة تحقيق خرق الحاجز حول غزة، وإفقاد إسرائيل السيطرة والتحكّم بكامل الجبهة، ثم الاحتفاظ بهامش سيطرة شرق القطاع، إلى هجوم عسكري كاسح نارياً، نفِذ من ثغرات أتاحت فتحها كثافة التمهيد النيراني، وسقوط أو هروب جنود الصفوف الأمامية. 

قد يفسر استخدام المقاومة تطويراً خاصاً للكاتيوشا، منظومة "رجوم" التي أُعلن عنها لاحقاً، سلاسة هذا الفتح، اللافتة، التي أتاحت نقل مئات العناصر والأسلحة إلى شرق القطاع في ساعات، مع احتساب الناتج الكامل لاستخدام الأسلحة المشتركة:

 تلك المنظومة، والطائرات الشراعية ذات الفردين، والمسيّرات، التي استهدفت مدرعات ونقاطاً وتجمعات ورشاشات دفاعية آلية التشغيل، في منافذ وعمق غلاف غزة، والقوة النارية خفيفة الحركة للمقاومة، قوات النخبة ذات الأثر الثقيل، العنصر البشري المدرّب على تنفيذ عمليات اقتحام بسرعة عالية.

 

عدا عن ذلك، وعن التوقيت المحدد وفقاً للرصد وتقدير الموقف، يبرز السؤال عن غياب أثر التكنولوجيا المستخدمة إسرائيلياً للإنذار المبكر، بالغة الحساسية والدقّة، التي تمثّل منجزاً علمياً غربياً، وإذا ما استخدمت المقاومة تقنيات متطورة مضادة لتحييدها، أو لتعطيل الاتصال بين قطاعات الحاجز والقيادة الصهيونية، أو حلول تقليدية أبدعتها بدراسة دقيقة، ومراقبة، للحاجز حول غزة. الذي يشكّل منظومة كاملة ومركّبة بالفعل، لكنه يمتدّ لمسافة طويلة نسبياً، بلا عمق في ذاته، ويكفل اختراقه ــ ولو من "فتحات" قليلة، السيطرة على نقاط دعمه الخلفية وتنفيذ انتشار، ما ينفي جدواه وهدف إقامته بالأساس. 

 

كان هذا ما حققته المقاومة، التي اجتاحت "رأس الحاجز" نفسه وصفّته، معبر إيريز شمال شرق غزة، وغنمت حصيلة مدرعات وآليات، في وحدات وقواعد عسكرية وراءه، لم يتح الهجوم الخاطف استخدامها. بعد تدمير عشرات منها في الميدان، الذي عكَس كثافة تمرير واستخدام مضادات الدروع شرق القطاع.

 

يبدو الهدف الفلسطيني المباشر، المعلن، وقف الاعتداء على الأقصى. وهو نصف عنوان المعركة الثاني. ويستلهم النصف الأول مضمون خطّة الهجوم المباغت: إغراق الجبهة بعدد كبير من العناصر المقاتلة، بغطاء ناري متوسط وقصير، والإمساك بنقاط سيطرة متباعدة، وتطويرها، مع مقابلة الهجمات المضادة، التي انطلقت ليل اليوم الأول، أحياناً، بالمناورة والتحرّك السريع إلى مساحة أخرى. من هنا انقسمت رؤوس الحراب الفلسطينية، مستغلّة غياب كتل تدريع وازنة في الخط الثاني وراء الحاجز، ووسّعت خط سيطرة يضمّ عدّة مستوطنات وبلدات وكيبوتسات، وأقامت آلية بسيطة، بالغة السرعة، نقلت عشرات الأسرى في الساعات الأولى. 

 

يعكس الموقف العسكري الحالي في غلاف غزة نقاط اشتعال لا يبدو طيران الاحتلال، فضلاً عن مدرعاته، قادراً على احتوائها. في سديروت وناحل عوز، حيث يصمد مشاة المقاومة ويستحيل إخراجهم، وزيكيم، بإسناد من كوماندوز بحري متسلل. مع قصف صاروخي يتنوّع مداه من عسقلان، القريبة، التي أمهل أبو عبيدة سكّانها ساعتين لإخلائها، إلى إشكول نغوهوت على أطراف الخليل. محصّلة لا يمكن فصلها عن الصدمة طويلة المدى، وارتدادها "الإداري" الواضح: لم تغب السيطرة والتحكم فحسب، أول يومين، بل الوفرة المعلوماتية اللازمة لصنع قرار أو تحرّك ناجز. وبعد اكتمال الصورة جاء المتوقَع، قرار بعملية برّية لم يتّضح بعد حجمها أو سقفها، أو مفهومها بالأساس في الواقع الميداني الحالي.

 

في السنوات الماضية تصدّرت الصواريخ مشهد المقاومة، ومثّلت "السيف" حقاً في معركة سيف القدس، عام 2021. وقد تجاوزت عدّة عتبات تطور مضت، في تاريخ المقاومة، وباتت ذات مدى أطول وقدرة تدميرية أعلى، لتنتج استهدافاً نارياً واسعاً، بأثر استراتيجي وأمني واقتصادي بالغ، وتكامل معها، قتالياً، العامل الفردي ممثلاً في عمليات ومواجهات الضفة، ومجموعات المقاومة الجديدة فيها، مثل نابلس وعرين الأسود. وقتها طُبّق التشخيص الذي تطرحه المقاومة العربية منذ فترة، القائم على استخدام تقنية الصواريخ في الخارطة الفلسطينية تحديداً: يمكن شلّ كيان الاحتلال بتوجيهها إلى كامل رقعة الساحل، القصير نسبياً والضيق، حيث يقع أغلب بنك الأهداف الاستراتيجية الكفيل ضربها بوقف الحياة، وبالتالي تقويض قدرات الاحتلال، وفرض إرادة سياسية عليه، إفادةً من تلاصق مقدراته الملموسة في شريط ضيق، وافتقاد وضعه بالضفة التماسك اللازم لجعلها، أو القدس، القاعدة المادّية للـ"دولة" والإمكانات والمؤسسات المركزية الأهمّ.

 

من زاوية مكمّلة، تترجم غزة اليوم تراكم الإمكانات والتدريب، في مجال غير الصواريخ بعيدة المدى، شاملاً العامل الفردي القتالي الناتج عن تنظيم أوسع، أي كتائب القسّام ومكونات غرفة الفصائل المشتركة. وتلقي ورقة جديدة هي كسر الحصار بتحرير الأرض، وتجاوز الإطار الجغرافي المغلق للقطاع، بعد عقد ونيف من الإعداد والتدريب، في إجابة جديدة لسؤال "ماذا بعد الصواريخ؟" تضع المبادرة بالهجوم البرّي، الكبير لا المحدود، بديلاً للاكتفاء بالردع أو إطلاق الصواريخ، لتعيد إلى الواجهة مركز الصراع وأول موضوعاته: أرض فلسطين، لا غزة وحدها، والسيادة عليها. وتبدو الإمكانات المتنوعة للمقاومة، وحسن استخدامها الذي يعكس تدريباً متقناً، ثمرة لسنوات عمل وتدريب تبرر، فعلياً لا باللفظ، الصمت الطويل عن الحصار، ومحاولات تخفيفه بالقوة، مع تغليب حماية القطاع وإسناد الضفة من الداخل على تحريك وضع غزة نفسها.

 

بينما يخلّف تفعيل الترسانة الصاروخية أثراً اقتصادياً ضخماً، ينعكس في إجمالي العمل والإنتاج والخدمات لمجتمع الكيان، ويعمّقه حظر التجوّل "العملي". تُوجّه الضربة الحالية إلى تماسك جسد الكيان نفسه، بالمعنى الاستراتيجي والإداري، وتقتحم مساحة طازجة مسكوتاً عنها نسبياً، الجنوب الفلسطيني، الذي يمثّل اتّساع مساحته أحد مفردات تصور المقاومة سابق الذكر. أغلب مساحة فلسطين التاريخية صحراء النقب الواسعة، غير المأهولة وصعبة المناخ، في الجنوب، ما يكثّف تكدس القوى العسكرية الإسرائيلية "حول" غزة، لكن بلا ظهير مركزي قريب، باستثناء بئر سبع على بعد نحو 50 ك.م من القطاع، ومن هنا يفرض الجهد الفلسطيني الحالي، جنوباً، غياب الاستقرار في الغلاف برؤوس أسهم هجومية مرنة، نحو شرق القطاع حيث الصحراء، والشمال حيث عسقلان ووراءها خطّ الساحل، وتتضح معضلة جديدة، يواجه الاحتلال نسخة منها - أقل تعقيداً - في الضفة.

 

المعضلة هي ديمومة الاختراقات والعمليات الخاطفة بمجموعات تنفيذ صغيرة، التي انطلقت ثالث أيام المعركة بعد إخلاء الغلاف من السكّان بالكامل، وتكاملت ومناورة المقاومة حول النقاط المحررة. ما يخلق، مع استهداف بئر سبع والنقب بالصواريخ، مشهداً جديداً بالكامل، يستهلك جهداً صهيونياً ضخماً يصعب حفظ كفائته لوقت طويل، إذا احتُسب الإخلاء الآخر والهلع، شمالاً على الحدود اللبنانية، والعمليات في الضفة التي لم توقفها مئات الاعتقالات في الأشهر الأخيرة. مشهدٌ يمثّل عدّة عوامل قوة تتسم بها المقاومة بالفعل، في واقع وتاريخ هذا الصراع، وأبرزها قوة الديموغرافيا والعديد الفلسطينيين، ونمط حرب العصابات ــ المدن، الذي يفرضه تواضع إمكانات حركات التحرر عادة. ويفعّل، للمرة الأولى، قوة برّية شاملة للمقاومة، تفيد من غياب التدريع الثقيل لديها، ومثّلت - عملياً - جيشاً واحداً، أسقَط "فرقة غزة" في ساعات، وقوّض قيادة الجبهة الجنوبية وسيطرتها بالكامل.