إدارة بايدن لن تكون حاسمة.. كيف تتعامل مصر مع ملف "سد النهضة"؟

ذات مصر

في الوقت الذي وضعت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ثقلها خلف الجهود المصرية، للوصول إلى اتفاق قانوني مُلزِم بين مصر والسودان وإثيوبيا يحكم ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي، وترجمت ذلك في استضافة ورعاية جولة من المفاوضات بين الدول الثلاث -بناء على طلب مصري- بين نوفمبر 2019 وفبراير 2020، أتبعت هذا بقرار في سبتمبر 2020 بتعليق حزمة من المساعدات الموجهة لإثيوبيا على خلفية قيام الأخيرة بالبدء في ملء السد قبل التوصل إلى اتفاق نهائي مع مصر والسودان، فإن أول إجراءات الإدارة الأمريكية الجديدة -على النقيض- إزاء نزاع سد النهضة تمثل في فك الارتباط بين سد النهضة والمساعدات العامة التي تقدمها الولايات المتحدة لإثيوبيا، وربط استئناف إرسال المساعدات التي كانت إدارة ترامب قد علّقتها -والبالغ قيمتها حاليا 272 مليون دولار- بعوامل أخرى غير محددة.

على مدار العقد الماضي لم تتمكن الدول الثلاث من الوصول إلى اتفاق نهائي مُلزِم لحل الخلاف، والتوافق حول آليات محددة لملء وتشغيل السد، تكفل تلبية الاحتياجات التنموية لإثيوبيا وتضمن الأمن المائي للسودان ومصر، ومع تكرار تعثر المفاوضات حتى يومنا هذا واستمرار الرفض الإثيوبي للوصول لاتفاق مُلزِم يحكم الملء والتشغيل ويحتوي على آلية قانونية لحل المنازعات، ومع إعلان إثيوبيا الأخير مُضيها قدمًا في المرحلة الثانية من ملء خزان سد النهضة مع موسم الأمطار في يوليو المقبل (2021)، بغض النظر عن التوصل لاتفاق مع كلٍ من مصر والسودان، وتصريح الأخيرة أن هذا الملء المنفرد سيفرض تهديداً مباشراً لأمنها القومي، بتنا اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى احتمالية انزلاق أطراف النزاع إلى مرحلة خطيرة، لا سيما في ظل التوترات الحدودية الحالية بين السودان وإثيوبيا.

في ضوء تلك المعطيات، هل يمثل التراجع الأمريكي عن الضغط على إثيوبيا حجر عثرة يطيل أمد المفاوضات وينبئ بتصعيد حدة التوتر بين الدول الثلاث؟ أم أن هذا يأتي في سياق إعادة تقييم السياسة الخارجية الأمريكية التي وعد بها بايدن، والتي أعلن عن تقديمها لجهود الدبلوماسية والحوار على الخشونة والتهديدات التي كانت غالبة في عصر سلفه ترامب؟

وهل تُعوِّل مصر والسودان على الولايات المتحدة وحدها للضغط على أديس أبابا للوصول إلى اتفاق قبل المرحلة الثانية لملء السد في يوليو المقبل؟ أم أن الأمر تجاوز حدود الولايات المتحدة وينبغي دخول لاعبين آخرين على خط الوساطة بين الدول الثلاث؟

 

 

أطراف النزاع في ميزان السياسة الخارجية الأمريكية؟

الموقف الأمريكي من قضية سد النهضة لم يتغير جذريا برحيل ترامب وقدوم بايدن للبيت الأبيض، وإنما تغيرت الأدوات المستخدمة فقط، فرغم فك الارتباط بين تعليق المساعدات والوصول إلى حل لخلاف سد النهضة مع إعلان الإدارة الجديدة مراجعة سياستها تجاه سد النهضة، وتقييم دورها في تسهيل الحل بين الدول الثلاث، فإنها ذيّلت ذلك بأملها في حل دبلوماسي بشأن سد النهضة يشمل مصر والسودان.

إذن، ففي ظل إدارة بايدن لا تزال الولايات المتحدة متمسكة بموقفها من ضرورة الوصول لحل دبلوماسي للخلاف بين الدول الثلاث، ولكنها أقل ميلًا لتوظيف أدواتها الخشنة -كتعليق المساعدات- للضغط على إثيوبيا للوصول إلى اتفاق نهائي مُلزم.

سيتوقف مدى الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة للوصول إلى حل لنزاع السد على عوامل عدة: أولها القدرة على تخصيص الموارد اللازمة للدفع تجاه الحل قبل تصاعد التوتر المتوقع مع الملء الثاني للسد في يوليو المقبل، وثانيها مسار العلاقات الثنائية مع الدول الثلاث في ضوء تطوراتها الداخلية ومدى استجابتها للتوجهات الجديدة للسياسة الخارجية الأمريكية، وآخرها مواقف الأطراف الثلاثة وخطوطها الحمراء المعلنة والمتاح أمامها من حلول وإجراءات.

 

 

إثيوبيا: مصدر للتوتر في القرن الإفريقي

بداية من نوفمبر الماضي (2020) صارت إثيوبيا بشكل أكثر وضوحًا مصدرًا للقلق والتوتر في منطقة القرن الإفريقي، فرئيس الوزراء "آبي أحمد" -الذي حصل على جائزة نوبل للسلام في 2019- أصبح الآن محل انتقادات دولية واسعة لفشله في الحفاظ على السلم الأهلي داخل البلاد، وتهديده للتحول الديمقراطي قصير العمر في إثيوبيا، بإشعاله حربا أهلية في إقليم التيجراي الشمالي، وكذلك تصاعد التوترات الحدودية مع الجار الشمالي السودان، واستمرار النزاع مع كلٍ من مصر والسودان حول ملء وتشغيل سد النهضة دون حل.

تعتبر إثيوبيا الآن مصدرًا لتهديد السلم والأمن الدولي في منطقة القرن الإفريقي، وعلى امتدادها الشمالي وصولًا إلى مصر، ففي شمال البلاد تشتعل أزمة إنسانية في إقليم التيجراي على إثر الحملة العسكرية للحكومة الفيدرالية على قوات "جبهة تحرير التيجراي"، التابعة لعرقية الأورومو المسيطرة في الإقليم، وفي الغرب زاد التوتر مع حدوث اشتباكات ومناوشات بين القوات الإثيوبية والسودانية في تجدد للنزاع الحدودي الممتد بين البلدين، وقد زادت حدة الخطاب الأمريكي تجاه إثيوبيا مع وصف وزير الخارجية الأمريكي الحالي ما يحدث في إقليم تيجراي بأنه "تطهير عرقي"، ودعوته لمحاسبة شاملة للمسؤولين عمّا حدث.

وتدور حاليا في أروقة إدارة بايدن أخبار حول النية لتعيين مبعوث خاص لمنطقة القرن الإفريقي، لإضافة المزيد من الموارد والاهتمام الدبلوماسي بالأزمات المستعرة في الإقليم، بدايةً من الانتقال السياسي الحسّاس في السودان وغياب الاستقرار وتفشي الفساد في جنوب السودان، مرورًا بالحكومة الصومالية الهشة التي تواجه جماعة الشباب الإرهابية، وانتهاءً بالأزمة السياسية الحالية في إثيوبيا والتوترات على حدودها الشمالية والغربية، وبكل تأكيد الصراع الدائر بين مصر والسودان من جانب وإثيوبيا من جانب آخر حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي.

السؤال المهم هنا هو: هل تتمكن الدبلوماسية الأمريكية من الضغط على أديس أبابا قبل بدء المرحلة الثانية لملء خزان السد في يوليو المقبل؟ وهل تملك الدبلوماسية الأمريكية أدوات جديدة للضغط على إثيوبيا بخلاف تعليق المساعدات الذي أثبت فشله في ظل إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؟

 

 

·  السودان ومصر: جبهة موحدة تبحث عن دعم دولي

على مدار العقد المنصرم كان النزاع الرئيسي حول سد النهضة بين مصر من جانب وإثيوبيا من جانب آخر باعتبارهما دولتي مصب ومنبع للنيل الأزرق على التوالي، هذا مع التزام السودان موقعًا وسطًا معظم الوقت، فحتى مع الوصول لمسودة اتفاق مبدئي برعاية أمريكية في فبراير 2020 وقّعت مصر عليه بالأحرف الأولى ورفضت إثيوبيا الذهاب إلى حفل التوقيع، بينما أبدت السودان تحفظات على الاتفاق، ورفضت التوقيع في النهاية.

رغم ذلك، فيبدو أن التداعيات الكبيرة لمرحلة الملء الأولى للسد في يوليو الماضي (2020) على السودان قد أفاقتها إلى حقيقة الخطر الذي قد يلحق بها لو استمرت إثيوبيا في التمسك باستئناف الملء المنفرد للسد في يوليو المقبل (2021)، وهو ما دفعها إلى التقارب مع مصر في الفترة الأخيرة وصولًا إلى الدعوة لرعاية رباعية للمفاوضات المتعثرة تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، وهذا بعد أن أثبت الاتحاد الإفريقي فشله في رعاية المفاوضات في الفترة الماضية.

وفي ظل قيام إدارة بايدن بإعادة صياغة علاقاتها في الشرق الأوسط، فإن الجهود المصرية لدفع واشنطن للضغط على إثيوبيا لتعود إلى مسار تفاوضي جاد لن تجد حليفا لها أفضل من السودان، الذي تحظى عملية الانتقال الجارية فيه بدعم أمريكي رغم مشكلاتها، وكذلك تشهد علاقاتها مع الولايات المتحدة تحسنا نسبيا مع رفع اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب في ديسمبر الماضي (2020).

 

 

سيناريوهات تطور الأزمة: وساطة رباعية أم إحالة لمجلس الأمن؟

مع تزايد التعنت الإثيوبي واستمرارها في انتهاج سياسة كسب الوقت وإطالة أمد المفاوضات، ظهرت دعوة السودان بتشكيل رباعية دولية من الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، للتوسط في قضية السد والوصول إلىى حل نهائي مُلزم حول آليات ملء وتشغيل السد، وقد دعمت مصر هذا الاقتراح، في حين رفضته إثيوبيا وتمسكت برعاية الاتحاد الإفريقي للمفاوضات واعتباره مراقبًا وليس وسيطًا.

وإذا أخذنا في الاعتبار طبيعة العلاقات الأمريكية المصرية حاليا، فإن توسيع دائرة الضغط على إثيوبيا عبر إشراك الرباعية الدولية في المفاوضات ربما يكون هو الحل الأمثل لهذه القضية.

وقد شهدت الأسابيع الماضية اتصالات دبلوماسية بين مسؤولين مصريين وسودانيين من جانب، وممثلي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي من جانب آخر، لتقديم حجج الدولتين ومطلبهما بدخول الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي على خط الوساطة بينهما وبين إثيوبيا.

ينبغي كذلك الإشارة إلى أنه لا يجب لمصر والسودان أن تُعوِّلا كثيرًا على الولايات المتحدة، فقد سبق واستضافت جولة للمفاوضات بحضور ممثلين للبنك الدولي، وانتهت بصياغة مسودة للاتفاق ورفضت إثيوبيا الحضور في جولة التوقيع على الاتفاق كما رفضت الاتفاق نفسه، معلنة احتفاظها بحق ملء خزان السد بما لا يضر بمصالح مصر والسودان، وقد صمدت إثيوبيا أمام تعليق جزء من المعونات الأمريكية الموجهة لها منذ سبتمبر 2020 حتى الآن، إثر اتهامها بالتعنت وعرقلة الوصول لاتفاق مع مصر والسودان.

إذن فإن خطوة توسيع الوساطة الدولية أو تدويل القضية بصورة أكبر هي الخطوة الملائمة، لا سيما أن مسار المفاوضات منذ قرابة عشرة أعوام قد كشف بما لا يدع مجالًا للشك عن النية الإثيوبية في المماطلة وعدم الوصول إلى اتفاق نهائي ملزم لأطرافه.

يبقى القول بأن خيار اللجوء لمجلس الأمن لا زال متاحًا أمام كلٍ من مصر والسودان، لكن يبدو أنه لن يكون مُجديا في هذه المرحلة، حيث سبق أن تمت إحالة القضية لمجلس الأمن في يونيو 2020، فقام المجلس بإحالة الملف إلى الاتحاد الإفريقي باعتباره التنظيم الإقليمي الكفء "قانونًا" لتسوية النزاع بين الدول الثلاث.

وبالتالي، ليس من المُتوقع اتخاذ مجلس الأمن قرارا يُلزِم إثيوبيا بوقف ملء السد لحين الوصول لاتفاق مع دولتي المصب، ويتأكد هذا الأمر عند النظر إلى علاقات إثيوبيا بالدول الكبرى في مجلس الأمن، فالصين على سبيل المثال تدفع مليارات الدولارات في استثمارات متعلقة بشبكات الكهرباء المرتبطة بالسد، وبالتالي فمن مصلحتها استمرار الملء وصولًا إلى تشغيل السد، وكذلك الولايات المتحدة التي فكت الارتباط بين المعونات وملف السد، وبالتالي ليس متوقعا أن تتبنى قرارا يُلزِم إثيوبيا بوقف ملء بحيرة السد.

ختامًا، ينبغي على كلٍ من مصر والسودان قبل الدخول في جولة مفاوضات جديدة مع إثيوبيا أن يضمنا إطارا زمنيا واضحا ومحددا لتلك المفاوضات، وضمانات لامتثال إثيوبيا لما يُوصي به الوسطاء الجُدد، كما ينبغي عليهما ألا يبدآ من الصفر، وإنما -على سبيل المثال- من مسودة الاتفاق التي تم التوصل إليها في واشنطن فبراير 2020 برعاية أمريكية وبحضور البنك الدولي، وينبغي كذلك اللجوء لحلفاء مصر في الخليج، بما لديهم من استثمارات ضخمة في إثيوبيا تُمكِّنهم من الضغط على الأخيرة للقبول باتفاق نهائي مُلزِم، يضع حدًّا لهذا النزاع المستمر منذ ما يجاوز عشرة أعوام والمرشح للتصعيد في قابل الشهور.