ريف خواجات.. لماذا هجر عوّاد أرضه لـ"الكريب" و"التشيز كيك"؟

ذات مصر

في قرية شرشابة، في عمق دلتا مصر، يحتشد المئات يوميًا أمام محل لبيع المعجنات، "بيتزا وكريب".. البعض لا يفضل الرحيل بها إلى منزله ويلتهمها في ركن مخصص للعائلات تتوسطه نافورة مياه ونباتات زينة أجنبية.

تتراص محال السوبر ماركت، في القرية التابعة لمركز زفتى بمحافظة الغربية -تبعد عن القاهرة 130 كيلو متر، تعرض بعضها المنتجات في سلال معدنية، خلاف البضائع التي تتزاحم على الأرفف بتشكيلات لا تقل عن أي سوبر ماركت كبير في المدن الكبيرة.

حال شرشابة، التي اختفت فيها المنازل الطينية وبنيت بعض منزلها على الطراز المعماري للأحياء الراقية، لا تختلف كثيرًا عن معظم قرى الريف المصري حاليًا، التي تغيرت ثقافتها من الإنتاج والاكتفاء الذاتي إلى الاستهلاك الترفي، حتى اختفت المنتجات التقليدية للريف المحلي، واستبدلت بما ينتجه الريف الغربي واللاتيني.

في سوق القرية، الذي ينعقد مرتين كل أسبوع يومي الأحد والخميس، تتضح معالم التغيرات العنيفة التي يمر بها الريف المصري، فغالبية الخضراوات باتت مُستوردة من مزارع في مناطق مستصلحة، والطيور البلدي أصبحت نادرة بعدما حل محلها الدواجن البيضاء ذات الأصل الفرنسي.

لم يعد الأخضر سائدًا في الريف المصري، واختفى، أو كاد، مزيد روائح الخبز المختلطة بدخان احتراق مخلفات الزراعة والأخشاب القديمة، بعدما عرفت أفران الخبز الأبيض والفرنساوي طريقها إليه، ودخلته المعجنات المصنوعة من الزيوت الصناعية بدلًا من الطبيعية.

تغيرت ثقافة الريف المصري من الإنتاج والاكتفاء الذاتي إلى الاستهلاك الترفي، حتى اختفت المنتجات التقليدية للريف المحلي، واستبدلت بما ينتجه الريف الغربي واللاتيني

قبل ثلاثة عقود فقط، كان شراء ولو حتى الطعمية سُبة في تاريخ القرى لا يُقدم عليها إلا المحرومون من امتلاك الطين.. كان التفاخر بكمية ما توفره الأيدي ذات الشقوق الشبيهة بالأرض، والوجوه التي لفحتها الشمس، ولم تكن الملابس البيضاء التي صبغتها الأتربة بالبني سوى مصدر للفخر.

جنوح الريف إلى الاستهلاك ليس وليد اليوم، وإنما بدأ مع السبعينيات، حيث موجة النزوح إلى العمل في الخارج، والعودة بالعملات الصعبة، ليصحبها ثقافة أن يتمرد الفلاح على أرضه، ويستبدل الأبنية الإسمنتية بالطينية، ويفضل غرس المسلح على الزرعة.

ثم تزايدت وتيرة التغيير وصولًا لدرجة التمرد على الزراعة ذاتها من قبل سلسلة أجيال متعاقبة، حتى بات الإنتاج الريفي مهنة لا يُقبل عليها سوى كبار السن، ومصيرها مرهون ببقائهم على قيد الحياة.

 

 

الزراعة تشيخ

في أرضه، يجلس المزارع الستيني عبدالهادي السيد، يعطي ظهره لنباتاته ويشاهد المارين أمامه، والغبار المتناثر من مركبات التروسيكل ثلاثي العجلات وسيارات الربع نقل التي تمر على طريق ترابية كانت مخصصة للدواب والماشية من قبل.

حمّل "عبدالهادي" وزارة الزراعة المصرية مسؤولية ما آل إليه الريف في السنوات الأخيرة، بعدما تركت الفلاح في حرب أسعار، لا ينفع معها الدفاع بمنجله، فلجأ كثيرون إلى تبوير الأرض وبيعها بالمتر، ووضع العائد في البنوك.

ارتفعت تكاليف الزراعة بصورة قياسية أكلت معها العائد، فالبذور والتقاوي المستوردة تضاعفت أسعارها لارتفاع أسعار صرف الدولار بعد قرار تحرير سعر صرف الجنيه في 2016، كما ارتفعت أسعار الأسمدة، لتكون المحصلة أن خدمة المحصول لعام كامل، تدر ربحًا صافيًا بالكاد يتجاوز ثلاثة آلاف جنيه.

ووفقًا للنقابة العامة للفلاحين في مصر، فقد ارتفعت تكلفة زراعة الفدان الواحد بنحو 40%، بسبب أسعار مستلزمات الزراعة من السولار والكهرباء، فأصحاب الماكينات الزراعية رفعوا سعر الري من 170 جنيهًا إلى 220 جنيهًا في المرة الواحدة بنسبة 35%، فيما ارتفعت تكلفة الفدان في محاصيل مثل الذرة من ثمانية آلاف جنيه إلى 12 ألفًا.

وفي حين تباع الأسمدة المدعمة بالجمعيات الزراعية بـ3290 جنيهًا لطن سماد اليوريا و3190 لطن سماد النترات، فإنها تصل في السوق الحرة إلى خمسة آلاف جنيه لليوريا و4600 للنترات.. وكثيرًا ما يعتمد الفلاحون على السوق الحرة للحصول على الأسمدة، بسبب عدم كفاية الأسمدة المدعمة في الجمعيات الزراعية وتأخر صرفها عن المواعيد المناسبة للتسميد.

لم يمنع خضوع الرجل المسن أخيرًا لعملية الفتاق بسبب حمل أجولة ثقيلة، من مواصلته العمل دون مساعدة أبنائه الذكور، فأكبرهم يعمل حارسًا لفيلا بالتجمع الخامس، والثاني في مصنع للزجاج بالعاشر من رمضان، والثالث في السياحة بمنطقة في جنوب سيناء لا يعرف العجوز اسمها.. أما ابنه الأخير فاختار الطريقة الأسهل والأكثر شيوعًا: العمل على توك توك.

لا يفوت العجوز الستيني فقرة مراقبة الناس ذهابًا وإيابًا.. يعتبرها تسلية اليوم.. يسخر من مزارع يتصفح هاتفه الذكي على ظهر الحمار: "الله يرحم"، يقول، ويضحك بلا خجل.

عصرنة الإنتاج والاستهلاك

على مقهى القرية، يتبدى وجه النموذج الحداثي بوضوح.. هنا قائمة طويلة من المشروبات الخواجاتية.. لم يعد الشا المشروب المحبب طالما هناك موكا وإسبريسو ولاتيه، كما يمكن طلب قطع الجاتوه والتشيز كيك وموس العسل من محل الحلوى الغربية على الناحية الأخرى من الترعة، حيث يمر الناس على جذع نخلة قديم لا يزال صامدًا.

اعتلاء سطح مبنى مرتفع بإحدى القرى المصرية يكشف ليس فقط أن الأبنية في الريف المصري تصل ارتفاعاتها إلى سبعة أدوار وأكثر، بالمخالفة لاشتراطات البناء، بل أيضًا عن تقلص الرقعة الزراعية لصالح الكتل الخرسانية، فضلًا عن الأسطح نفسها، وبعد أن كانت تمتلئ بالمحاصيل الزراعية المخزنة، والدواجن المرباة، باتت تعج بالكراكيب.

تظهر دراسات أنثروبولوجية، تناولت القرية المصرية خلال الأعوام الماضية، تأثرها بانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تنامي رغبة قاطنيها في التقليد والمحاكاة بتطلعات طبقية وثقافية، ما ولد ممارسات متعلقة بالسلوك الاستهلاكي الذي يتحول بمرور الوقت إلى سلوك عادي، حيث يجري التطبيع معه، ويدخل كعنصر أساسي في النسيج الاجتماعي - الثقافي.

وتكشف دراسة لمعهد الدراسات البيئية بجامعة عين شمس حول التغير الاجتماعي وأثره على ثقافة الإنتاج والاستهلاك في القرية المصرية، عن التراجع الكبير للإنتاج المنزلي مقابل تزايد سمة الاستهلاكية بين معظم الأسر، بعد أن كانت الأسرة وحدة الإنتاج الأولى في المجتمع المصري، خاصة في الريف.

مخاطر كبيرة

يحمل تزايد وتيرة عصرنة الريف أخطارًا كبيرة على الاقتصاد الكلي، مع التقلص الخطير للرقعة المزروعة، خاصة المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح، وتحول القرية من مبدأ الاعتماد على النفس، إلى عبء أكبر فيما يتعلق بتوفير المزيد من فرص العمل لوقف موجات النزوح نحو المدينة.

وتبدأ جذور المشكلة مع وأد تجربة التعاونيات الزراعية في السبعينيات، والتي كانت تضم قرابة 95% من الفلاحين المصريين،  وتوفر كل مستلزمات الزراعة من أسمدة ومبيدات وبذور وأدوات وماكينات، وفي المقابل تتولى تصريفة المحاصيل.

ومنذ اختفاء التعاونيات، أصبح الفلاح كاليتيم أمام ضروريات توفير المستلزمات وتصريف المحصول، وكثرت المراحل بين وصول المنتج من أرضه إلى المستهلك، ما يقلص الربح عليه.

وتعد محاصيل الفاكهة كالأعناب، دليلًا على تلك المشكلة، إذ يبيع الفلاح الكيلو من الأرض بسعر لا يتعدى الجنيهين، ليصل إلى أسواق التجزئة بسبع جنيهات في المتوسط، وفارق السعر يذهب عادة لتاجر الجملة.

ورغم وجود الجمعيات الزراعية في كثير من القرى المصرية، لكنها مؤسسات على الورق فقط، بلا أنشطة حقيقة. وعلى العكس قد تزيد من معاناة المزارعين ببيع حصصهم المدعمة من الأسمدة في السوق الحرة، وربما يكون تراجع أعدادها إلى أربعة آلاف جمعية فقط، دليلٌا حتمي على غياب دورها الفعال في دعم المزارعين.

استيراد خيالي

تتضح مخاطر تحول الريف المصري إلى الاستهلاكية مع تنامي الزيادة السكانية في ظل محدودية الإنتاج المحلي. وفقًا لأستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة ورئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، رشاد عبده، تتمثل بعض تلك المخاطر في الحاجة المتزايدة للاستيراد من الخارج، ما يعني تحميل المزيد من الأعباء على الميزان التجاري والاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية.

دور أكبر لوزارة الزراعة في توفير مستلزمات الإنتاج الزراعي لتكون في متناول صغار الفلاحين، هو الحل المقترح من رشاد عبده، لافتًا إلى ضرورة التركيز على منتجي المحاصيل الاستراتيجية، على أن توفي الحكومة بتعاقداتها مع الفلاح مهما كان السعر العالمي، لتشجيعه على الاستمرار في النشاط الزراعي.

هناك أيضًا النظر إلى حجم الأراضي الزراعية الخاصة، والتي يقل 79% منها عن الفدان الواحد، وبعضها صار محشورًا داخل رقع خرسانية.. سيستلزم ذلك تصنيع آلات ومعدات زراعية صغيرة الحجم تتناسب مع حجم الأراضي، بما يحقق كفاءة دون إهدار.

من جانبه، طرح نقب الفلاحين حسين أبو صدام، التزام الحكومة بشراء الإنتاج المحلي بهامش ربح مجز للفلاح، حلًا لمشكلة العزوف عن الزراعة، مستندًا في طرحه إلى المادة 29 من الدستور، التي تنص على أن الزراعة مقوم أساسي للاقتصاد الوطني، وتلزم الدولة بحماية الرقعة الزراعية زيادتها، وتنمية الريف ورفع مستوى معيشة سكانه، وتنمية الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعات التي تقوم عليه، كما تنص على إلزام الدولة شراء المحاصيل الزراعية الأساسية بشعر مناسب يحقق هامش ربح للفلاح.

ويمكن استيضاح تأثيرات خروج الريف المصري من المعادلة الإنتاجية، بتتبع جدول واردات مصر، المستهلك الأكبر للقمح في العالم، بحجم استيراد يصل إلى 12.5 مليون طن سنويًا، فضلًا عن 800 ألف طن فول و300 ألف طن عدس سنويًا، بقيمة تصل  إلى ملياري دولار.

أيضًا فقد الريف المصري ثراءه الكبير في إنتاج الدواجن البلدية بعد الارتفاعات القياسية في أسعار العلف، التي سجلت خلال شهرين اثنين فقط 2600 جنيه، ليبلغ سعر الطن 8300 جنيه (تسليم مصنع)، بعد أن كان لا يتجاوز 5700 جنيه نهاية العام الماضي، وذلك بعد ارتفاع نسبة استيراد الذرة لـ80% وفول الصويا لـ95%، وهما من المكونات الأساسية في صناعة الأعلاف.

ونهاية الشهر الماضي، قفز سعر الذرة الصفراء المستوردة لنحو 5300 جنيه، وفول الصويا لنحو 10 آلاف جنيه، تزامنًا مع ارتفاعه عالميًا.

يراهن الخبراء على أن تقليل تكاليف الإنتاج، هو الحل الأول لعودة الريف المصري للإنتاجية، وعودة الدورة الزراعية التعاقدية بين الفلاح والشركات قبل زراعة المحصول نفسه، على أن تتوفر للفلاحين خدمات الإرشاد الزراعي ومستلزمات الزراعة، ثم يمكن خصمها من المبلغ النهائي، أسوة بما يحدث بالفعل مع محاصيل مثل البنجر وقصب السكر.

يهدد استمرار عصرنة الريف، دون دعم لنشاطه الأصلي، الزراعة، بفقدان مساحات كبيرة من الأرض الخصبة، حتى بعد قرارات منع البناء على الأرض الزراعية

عماد أبو حسين، نقيب الفلاحين السابق، يُرجع التغيرات التي عرفها الريف المصري، إلى انخفاض العائد من الزراعة بشكل أساسي.. يقول لـ"ذات مصر": "عندما كانت الزراعة مجدية ماليًا، كانت جاذبة للعمل، ليس فقط من أبناء القرى، بل حتى من أبناء المدن الخريجين الجدد، ومعلمين، والموظفين الحكوميين، والذي كانوا يؤجرون الأراضي من أصحاب الحيازات الكبيرة أو يزرعونها بالمناصفة.

يستشهد "أبو حسين" بمحاصيل العام الماضي، خاصة البطاطس، التي خسر الفلاح فيها 1800 جنيه في الطن، كذلك الحال بالنسبة للطماطم والخضراوات التي ذهبت بأسعار زهيدة للتجار ومصانع التعبئة.

يُحذّر "أبو حسين" من تحول الزراعة في مصر إلى مهنة الشيوخ وكبار السن الذين لم يعد باستطاعتهم البحث عن بديل، في حين يعزف الشباب عنها بحثًا عن مهن بعوائد أفضل.

خسارة الأرض الخصبة

يهدد استمرار عصرنة الريف، دون دعم لنشاطه الأصلي، الزراعة، بفقدان مساحات كبيرة من الأرض الخصبة، حتى بعد قرارات الحكومة الحاسمة لمنع البناء على الأرض الزراعية، فحتى لو منع القرار البناء، لن يحول دون ترك الزراعة.

وتكشف صور الأقمار الصناعية الحديثة خسارة شرق الدلتا لنحو 43% من مساحة أراضيها الزراعية، وتؤكد وزارة الزراعة أن إجمالي التعديات على الأراضي خلال الثلاثة أعوام التي تلت ثورة 25 يناير 2011، بلغت 53.3 ألف فدان، كانت لتكون كفيلة بسد نصف احتياجات المواطنين من الفول سنويًا.

تتضافر المشكلات في مواجهة الفلاح مع مهنته.. السعي وراء لقمة العيش يحث على بيع الأرض دون غضاضة، إضافةً إلى التطلع الطبقي والثقافي، والجنوح للاستهلاكية، فلم يعد بيع الأرض عيبًا.. لم يعد ما فعله عواد مخجلًا!