علي الصاوي يكتب: ماذا لو انتصر الصهاينة؟

ذات مصر

قد يبدو عنوان المقالة غريبا عزيزي القارئ، لكن ماذا لو انتصرت إسرائيل فعلا وهجّرت أهل غزة وقضت على المقاومة في ظل موقف عربي ضعيف لا يرقى لمستوى الكارثة، هل سيقف الأمر عند هذا الحد أم ستُشعل إسرائيل بؤرة صراع جديدة وتتوغل أكثر لتلتهم المنطقة وتقيم دولتها من النيل إلى الفرات كما يزعمون في توراتهم المحرّفة؟

"إنني أشم رائحة بلادي في الحجاز، وهي وطني الذي عليّ أن أستعيده مرة أخرى، الآن أصبح الطريق مفتوحًا أمامنا إلى مكة والمدينة، لقد استولينا على القدس واسترجعناها ونحن اليوم في طريقنا إلى يثرب، وسـوف يأتي اليوم الذى نقـف فيه كعملاق ضخم يغسل قدميه في مياه البحر الأحمر والخليج العربي".

كلمات قالتها "جولدا مائير" أثناء زيارتها إلى مدينـة أم الرشراش المصرية بعـد حرب 67، تداعب حلمًا إسرائيليًا قديمًا، ولد من رحم الخيانة وتغذّى عليها حتى كبر وتحول إلى وحش كاسر، يسرح ويمرح على مرأى ومسمع في منطقة منقسمة داخليًا ومهزومة نفسيًا دون أي رد يُذكر، يواجهونه بمقاومة متفرقة وبيانات شجب واستنكار لا تزيدهم إلا وهنًا على وهن، حتى صرنا أضحوكة العالم.

لم يكن أحدا يتوقع أن من سيجلد الأمة بسوط الخذلان وهي في أوج مراحل ضعفها هم بعض أبنائها الذين ساقتهم الأقدار أن يتولوا شؤونها ليس لأنهم الأفضل والأقدر على قيادتها، بل لأنهم الأكثر قدرة على تبرير الخيانة وتنفيذ أجندات استعمارية غاية في الخطورة، بعـد أن وجد الغرب في بعض محبي السلطة الولاء والموالاة مقابل دعم دولي دائم يعزز بقاءهم في الحكم أطول فترة ممكنة، لم يعد يخفى على أحد أن أزمة فلسطين الحالية ليسـت سياسية أو اقتصادية أو دينية ولكنها أزمة زعامة، انحدرت إلى مستوى مشين من التخلي وعدم الاكتراث أمام دماء تُسفك كل يوم.

يظن بعض المطبعين أنهم بتصفية القضية الفلسطينية لصالح الكيان الصهيوني سيجعل موقفهم السياسي أقوى من ذي قبل لتبدأ حقبة جديدة من السلام والتعايش، ونسوا أن إسرائيل لن تقبل بأي دولة أخرى تزاحمها في زعامة المنطقة فطموحها السياسي والجغرافي لا حدود له، وقد يكون ذلك مقدمة لما قاله الأديب مصطفى صادق الرافعي: "إن اليهود يخبئون فكرتين خبيثتين، أن يكون العرب أقلية، ثم بعد ذلك يكونوا خدما لليهود". لذلك كان موقف مصر حازماً وحاسما ضد ما تريده إسرائيل من تهجير أهل غزة نحو سيناء، لإدراكها عمق المخطط الصهيوأمريكي لتصفية القضية والالتفاف حول مصر لضغطها سياسيا وخنقها اقتصاديا، لتكون عرضة لمزيد من الأزمات الداخلية وبالتالي ترضى بالواقع الجديد رغما عنها.

فإذا كان بعض المطبعين يخدمون اليهود الآن طوعًا، فغدًا سوف يخدمونهم أذلة وهم صاغرون، بعد أن تهتز الأرض من تحت أرجلهم، ولن تكون مكة المكرمة في مأمن من الخطر هى الأخرى أو على الأقل تكون تحت سيطرتهم وإدارتهم، والحيل كثيرة والأسباب متوفرة، والقدس ليست مجرد مدينة، بل رمز وامتحان وقبلة، فإذا لم نستطع حماية قبلتنا الأولى فلا يمكننا النظر بثقة إلى مستقبل قبلتنا الأخيرة مكة، فمن يفرط في القدس سيهون عليه التفريط في أخواتها.

في كتابه "مكان تحت الشمس" يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو "إن حدود دولتنا ليست فلسطين فحسب، بل تمتد إلى الأردن وبعض الدول العربية، وحتى خيبر في السعودية". وحين سُئل أحد القادة العسكريين عن حدود دولة إسرائيل قال: "إن حدود دولتنا حيث توجد دباباتنا وأقدام جنودنا"، لذلك لم يضع الكيان الصهيوني لنفسه دستورًا حتى الآن لأنه سوف يفرض عليه رسم حدود دولته المزعومة، وذلك هو المخطط بعيد المدى.

ثبات المقاومة في غزة هو بمثابة ورقة التوت الأخيرة التي تستر العرب فإذا سقطت تعرّت المنطقة عن آخرها، وباتت مرتعا للصهاينة لتبدأ مخططات جديدة تتجاوز فلسطين، وأضعف الإيمان يكمن في دعم هذا الثبات سياسيا وربما عسكرياً من وراء ستار، فحين شعرت أمريكا أن التهديد الوجودي لإسرائيل هذه المرة غير مسبوق، استجابت ودعمت بكل قوتها السياسية والعسكرية، لأنها تعلم أن فناء إسرائيل يعنى فناء مصالحها وتهديد وجودها في المنطقة، فإذا كانت إسرائيل هى سر وجود الأمريكان في المنطقة وسند هيمنتهم وذريعة تدخلهم بشكل دائم، فإن المقاومة الفلسطينية هى عمود خيمة العرب الصلب الذي يحفظها من السقوط وشدة الرياح، بدلا من أن نجد أنفسنا غدا مضطرين للدفاع عن أمننا القومي من النقطة صفر من حدودنا.

إن اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا النظام العنصري اللقيط هى القوة، فالنصر في معارك التحرير الوطني لا يتحقق من خلال رفع دعاوى قضائية أو مرافعات حنجورية في أروقة المحاكم الدولية أو منصات الأمم المتحدة، فكل هذه المنظمات مجرد هياكل فارغة تتحكم فيها عصابات مجرمة، ففي حال اتحدت كل الفصائل الفلسطينية وتجاوزت خلافتها الداخلية، فلن تتمكن إسرائيل من مواصلة ما تقوم به في غزة من عدوان والتخطيط لنكبة جديدة.

وبعد أن فقدنا الأمل في قيادة قوية تُعيد لنا الأرض، لم نجد ما نعول عليه سوى أن توحدوا صفوفكم تحت راية واحدة لدحر العدوان وإفشال مخططاته لتستردوا أرضكم وتصونوا عرضكم، ويبقى طول النفس هو الجندي المجهول الذي سيحسم المعركة عاجلاً أم آجلا.