فراج إسماعيل يكتب: هل بقي شيء للتطبيع؟!

ذات مصر

من غير المنطقي أن يتحدث جو بايدن عن التطبيع، وإسرائيل ترتكب حرب إبادة بشرية وتصفية عرقية ضد قوم يراد التطبيع معهم!
لن يكون تطبيعاً بأي حال، بل فرضاً لأمر واقع، وهزيمة أخلاقية ونفسية، وتهجيراً قسرياً للكرامة والنخوة العربية ولأي عنترة يتمسك بالأرض والسيادة واستقلالية القرار.
قبل حرب الإبادة التي تشن على غزة وما يجري بتحالف أمريكي أوروبي لتهجير أهلها من وطنهم، لم يشهد التطبيع المصري الإسرائيلي طيلة 43 عاماً أي خطوة فعلية، ظل تطبيعاً دبلوماسياً خجولا يراوح مكانه، لا يتعدى سفارة هنا وسفارة هناك. استمرت الكراهية والتربص الإسرائيلي بمصر، وما زالت المشاعر اليهودية الصهيونية المتطرفة ترابض مكانها، غضباً على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء، وطمعاً فيها لحل مشكلة الدولتين، أو خلق فراغ واسع خالٍ من البشر بتهجير أهالي غزة إلى مساحة خلفية من سيناء لتأمين وتعضيد نظرية الأمن الإسرائيلية.
جميع حكومات تل أبيب التي تولت أمرهم عقب كامب ديفيد لم تتخل عن فكرة أن العدو الرئيس هو (مصر).. ولم يغلق لها جفن عن الاستعداد لحرب جديدة ضدها.
لم يقتصر الاستعداد على تتريس أحدث الأسلحة الأمريكية وأكثرها فتكاً وتدميراً وإبادة للبشر.
وما ذلك الذي يجري لغزة وجرى مراراً منذ توقيع معاهدة أوسلو في سبتمبر 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، سوى بروفة لما سيكون في حال نشوب حرب جديدة ضد المصريين.
نظرية الأمن اليهودية المتطرفة لم تتغير منذ وضعها المؤسس ديفيد بن جوريون الذي قاد حربين ضد مصر، 1948، 1956، وترأس حكومات الصهاينة من 1948 حتى 1963 ما عدا سنتين 1953 -1955.
وتتمثل في أن الحدود المصرية يجب أن تتوقف عند الضفة الغربية لقناة السويس، وحدودها البحرية يجب أن تسحب منها أي مضايق تتيح لها السيطرة على المياه الإقليمية الفعلية.
احتلت سيناء مرتين، عام 1956 وانسحبت منها بضغط دولي نتيجة إعادة تشكيل القوى العظمى. واحتلتها 1967 وانسحبت منها بعد أن خططت وبنت مستوطنات بنية البقاء فيها للأبد.
ولم تتوقف بعد الانسحاب عن النوايا السيئة، وهناك شكوك كبيرة بأنها وراء الجماعات الإرهابية التي تخلقت داخلها. ولم يسلم ممر قناة السويس كرافد اقتصادي حيوي لمصر من تلك النوايا، آخرها اتفاقية خلق ممر بديل بين الهند والغرب يمر بميناء حيفا، دون أن ننسى مشروعها لشق قناة بديلة.
وجاءت الخطوة الأخطر عبر إدارة ترامب ثم إدارة بايدن، وتتمثل في حصار مصر بالتطبيع مع الخليج والسودان والمغرب. تحقق ذلك بالاتفاقيات الإبراهيمية، وبقيت السعودية مهد الإسلام وحاضنة الحرمين الشريفين، الجائزة الكبرى، التي تتيح فعليا التطبيع مع المسلمين الذين يحجون إلى هذه البقعة المقدسة من جميع أنحاء العالم.
وتحققت مقدمات كثيرة لذلك التطبيع قبل حرب إبادة غزة.. كدخول وزراء ووفود إعلامية إلى السعودية. والسماح بمرور طائرات العال بأجوائها، بل هبطت بعض رحلاتها بالفعل.
خططت الإدارة الأمريكية لحصار الإرادة الشعبية المصرية المقاومة للتطبيع مع تجاهل كبير لمكانة وأهمية القاهرة كعاصمة للقرار العربي، وذلك بتطبيع خليجي تلعب فيه الدور الأكبر.. ثروة النفط واتفاقية الممرات، وخلق عدو بديل متمثلاً في إيران.
ينبغي أن تُفسد الإبادة البشرية لغزة ذلك المخطط.. وألا تبقي شيئا لأهداف التطبيع المتمثل في السلام والرفاهية.
ولكن بايدن يرى العكس. قال يوم الجمعة الماضي "إن هجوم حماس كان يهدف إلى عرقلة التطبيع المحتمل للعلاقات بين إسرائيل والسعودية الذي تسعى إليه الرياض". هذا وفق نص رويترز.
واستطرد بايدن: "أحد أسباب تحرك حماس تجاه إسرائيل هو أنهم علموا أنني كنت على وشك الجلوس مع السعوديين". ثم أضاف ""خمن ماذا؟ .. السعوديون أرادوا الاعتراف بإسرائيل".
كان التطبيع المحتمل للعلاقات مع السعودية ودول عربية أخرى أولوية قصوى لوزير الخارجية أنتوني بلينكن خلال رحلته إلى الرياض في يونيو الماضي على الرغم من اعترافه بأنه لا ينبغي توقع أي تقدم وشيك.
وقال بلينكن لشبكة CNN في 8 أكتوبر "لن يكون مفاجئاً أن يكون جزءاً من الدافع (للهجوم) هو تعطيل الجهود الرامية إلى الجمع بين السعودية وإسرائيل".
وقال بايدن لبرنامج 60 دقيقة على شبكة سي بي إس في مقابلة بُثت يوم الأحد الماضي، إن احتمال التطبيع "لا يزال قائما، وسيستغرق بعض الوقت".
الرئيس الأمريكي كرر أكثر من مرة بأن الرياض تريد الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها. وكنا قد قرأنا عن شروط سعودية تتعلق بنوعية السلاح الذي تحصل عليه من واشنطن والسماح لها بتخصيب اليورانيوم، ومعاهدة دفاع مشترك، لكن الشرط الأهم هو تسوية القضية الفلسطينية.
فهل تتحقق التسوية بالإبادة البشرية لأكثر من مليونين و300 ألف نسمة، وبمجازر لا يهتز لها قلب كالتي أبادت 500 نفس بريئة في مستشفى المعمداني ، 70% منهم نساء وأطفال؟!
نتنياهو حرص على ارتداء لباس الحرب في ظهوريه بغلاف غزة والحدود مع الجنوب اللبناني، وإعلاء تهديدات الحرب والتدمير الكامل لغزة ولدولة لبنان.. فهل يمكن التطبيع معه ومع حكومته المتطرفة التي يقودها قبضايات وليس رجال دولة!
الانحياز أعمى إدارة بايدن عن رؤية الحقائق. تعتقد أن الحفاظ على مصالحها يضمنه التطبيع مع النفط السياسي الخليجي، بلا حاجة لحل القضية الفلسطينية. 
ورغم حديث الإدارة الخجول عن حل الدولتين في التصريحات المتزامنة مع حرب غزة، فإنها تمارس مع الدول الغربية التي حضرت مؤتمر السلام في العاصمة الإدارية الجديدة، ضغوطاً هائلة لتهجير سكان غزة، ليس على مصر وحدها، بل على كل دول الجوار كما ذكر وزير الخارجية المصري.
تنفيذ إحلال جديد للفلسطينيين، نكبة أخرى ترحلهم إلى الشتات العربي من المحيط إلى الخليج، مع التلويح بالدعم المالي والإنفاق على الموجات المبعدة.
أجواء خيمت بشدة على مؤتمر السلام، أظهرت تربصاً لإفشال الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وعدم التوافق على مسودة البيان الختامي، غير كلماتهم التي تدين الضحية ولا تتراجع عن انحياز كامل وغير مفهوم لسلوك إبادة البشر وقصفهم من السماء من غير توقف وبلا ذنب أو جريرة سوى الانتقام المروع من هجوم مسلحي حماس الذي لم يستغرق أكثر من ساعات.
ولولا الأسرى والرهائن لشهدنا مجزرة أعنف والرمي بقنابل محرمة دوليا أكثر فتكا من الفوسفور الأبيض، ولعجلت إسرائيل بدعم أمريكي وغربي باجتياح بري يبيد من تبقى من الأبرياء.
أضف ذلك إلى التجويع والتعطيش وقطع كل مكونات الحياة.
لم يبق شيء للتطبيع، بل لا يمكن أن يكون مع كيان يعامل قولاً وفعلاً الآخرين بجواره باعتبارهم حيوانات، وهو اللفظ الذي أطلقه على الفلسطينيين في غزة وزير الحرب المتطرف جالانت ثم رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنجبي.