فراج إسماعيل يكتب: إسرائيل تنهزم

ذات مصر

في الحروب الكلاسيكية..النصر يعني احتلال أرض العدو والقضاء على قدراته العسكرية وقتل وإصابة وأسر عدد كبير من الجنود. هذه بالفعل نتائج الحروب العربية الإسرائيلية بين الجيوش النظامية فيما عدا حرب أكتوبر 1973. 

حرب غزة الحالية ليست كلاسيكية ولن تُحسم نتيجتها بحجم الترسانة العسكرية الفائقة القدرة والإمكانيات التي وفرتها واشنطن لإسرائيل. 

واشنطن تدرك ذلك من خبراتها السيئة في الصومال وأفغانستان والعراق.. قصف جوي بأطنان القنابل وصواريخ موجهة بدقة وعدم تكافؤ على الإطلاق لصالحهم في مواجهة مئات أو حتى آلاف المسلحين، ومع ذلك انسحبت مهزومة من كل تلك الحروب، رغم أنها احتلت أفغانستان وأسرت عددا كبيرا من طالبان والقاعدة، واحتلت العراق، وسيطرت على مقديشو. 

لا أشك أن اتصالاتهم مع قادة الجيش الإسرائيلي ونصائحهم المتوالية بتأجيل أو إبطاء الغزو البري.. قدمت لهم وجبات دسمة من النصائح التي تحاول شرح مفهوم النصر في هذه النوعية من الحروب الجديدة. 

نتنياهو ووزير دفاعه المتطرف يقولان إنهما لن يتخليا عن هدف النصر واسترجاع الأسرى، وهذا غباء سياسي وعسكري. 

كيف تنتصر وتضمن في الوقت نفسه استرجاع الأسرى الذين تجهل إسرائيل عددهم الحقيقي، فالأرقام التي تعلنها تتغير بين يوم وآخر، ووصلت أخيرا إلى 239 أسيرا. 

تخبط كبير، فليس معقولا أن يبدأ تقديرهم في اليوم الأول بمائة أسير ليصل في الأسبوع الثالث إلى حوالي ضعف ونصف، إلا إذا كل أسير يلد أسيرا، أو كانت بعض الأسيرات حوامل ووضعن داخل الأنفاق. هذا افتراض هزلي لا أكثر ولا أقل. 

مشكلة إسرائيل التي تجعلها تتشبث باستمرار الحرب ورفض ندءات وقف إطلاق النار بمساعدة أمريكا.. أنها تريد إعلان الانتصار في حرب لا تؤدي أبدا إليه حتى لو نجحوا في الاجتياح البري. الواقع أن إسرائيل تنهزم مع كل قتيل يقع منها، وعدد أسراها الكبير في يد حماس، ورقة حرمتها وستظل تحرمها من النصر. فهي تواجه ضغوطا داخلية من عائلات الأسرى، الذين التقوا نتنياهو صباح الأحد 29/10 وقالوا له: لا نريد استمرار الحرب والقصف ولا الاجتياح البري. نريد إعادة أبنائنا مقابل تسليمهم جميع المساجين الفلسطينيين في سجون إسرائيل.. الكل مقابل الكل. طمأنهم نتنياهو صاغرا ومستسلما بأنه يتفاوض على ذلك. كيف يمكنه التفاوض بالحرب واستمرار القصف؟!.. وهل هناك نتيجة أخرى غير إعادتهم في صناديق إلى عائلاتهم إذا أصر على هجومه الهمجي؟! 

صحيفة هآرتس وصفت الحرب بالضبابية والفوضى التي يمكنها مساعدة نتنياهو في إقناع الرأي العام الإسرائيلي بأن الحرب ستطول لأشهر وحتى لسنوات. 

نتنياهو يرغب في إطالة الحرب لأن انتهاءها سيعجل من محاكمته السياسية وإجباره على الاعتزال وربما تقوده إلى السجن.

 تؤرقه هذه الحقيقة التي جعلته يكتب تغريدة بالعبرية في موقع "إكس" في منتصف الليل تحت تأثير الخمر يتهم فيها قادة الاستخبارات العسكرية والشاباك بتضليله وإعطائه معلومات خاطئة عن حماس. بعد نحو 9 ساعات، أفاق خلالها من السُكر ومن النوم، وجد "إيميل" من رئيس مجلس الأمن القومي يقول له "هذا عيب وخطيئة عسكرية في وقت الحرب.. لا يجب أن تتهم قادة أجهزتك الأمنية بالفشل". قام نتنياهو بحذف التغريدة على إثر هذا الإيميل.. لكنها كانت قد أدت إلى غضب كبير في "كابينت الحرب" المصغر وقيادات المخابرات العسكرية والشاباك، مما جعلته يكتب اعتذارا وصفته صحيفة تايمز أوف إسرائيل بالنادر في أداء رؤساء الحكومات الإسرائيلية. 

الرأي العام الإسرائيلي لا يصدق بيانات جيشه. الفيديو الذي أعادوا نشره مرات على وسائل التواصل لمدرعة تنفجر بفعل صاروخ كورنيت أطلقته حماس، يعني قتل كل من فيها، فحمولتها المفترضة تصل إلى 15 جنديا وضابطا، ومشهد انفجارها لا يوحي بأن هناك ناجين أو على الأقل مصابين. الرأي العام الإسرائيلي التقط أيضا السوشيال ميديا الأمريكية التي حددت عدد القتلى والمصابين الإسرائيليين في عملية الإنزال التي نفذتها حماس وراء الآليات في معبر إيريز بـ35 ضايطا وجنديا. أكثر من ذلك أن دانييل بايمان، الخبير البارز في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية والأستاذ في كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون، كتب سيناريو أسود ينتظر القوات الكبيرة المحتشدة إذا دخلت غزة في اجتياح بري موسع. 

توقع في بحث مطول كتبه لمجلة فورين بوليسي الأمريكية اصطدامها بتحديات ومعضلات كبيرة، لأنها لن تدخل بعددها الضخم المتجمع حاليا، بل ستنتشر وتتوزع على محاور ومناطق وأزقة متعددة ما يجعلها صيدا سهلا في متناول كمائن الفصائل الفلسطينية. 

معطيات أدت لنتاىج جديدة، فأمريكا بدأت التخلي عن نهجها المتصلب وتطلب من إسرائيل تجنب المدنيين والاهتمام بحياة "الرهائن" ومستشار الأمن القومي جيك سيلوفان أكد لـCNN أن الرئيس بايدن يضغط على نتنياهو في سبيل ذلك. ووصف مقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين بالمأساة المطلقة لأنهم لا يستحقون الموت بل الحياة بأمن وكرامة.

 تراجع أمريكي كبيرة في اللهجة والتناول بعد أن كان بايدن يشكك في عدد الشهداء المدنيين. إذاً إسرائيل تنهزم عسكريا وتنهزم سياسيا. لعل هذا وراء زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان لواشنطن، وهو يملك خبرة التعامل مع الدبلوماسية الأمريكية من خلال عمله كسفير سابق في واشنطن، ويملك خبرة نقل رؤية القيادة السعودية لمكانته كشقيق أصغر لولي العهد الأمير محمد بن سلمان. 

لا يذهب وزير الدفاع السعودي بدون أن ينتظره جديد سيسمعه وسيعود به. ولن يكون الجديد على مزاج نتنياهو، فالسياسة السعودية واجهت انتقادات خلال الأيام الماضية على صمتها حتى من الإعلام الأمريكي.. ولا أتوقع أن يكون قطع الصمت خاليا من نتائج مهمة. 

اسرائيل تنهزم أيضا عمليا بعد أن استهلكت عقدة ذنب مقتل المدنيين في هجوم حماس على غلاف غزة، وقدمت للعالم عدادا متصاعدا رقمه بسرعة مذهلة، وحتى كتابة هذا المقال يزيد عن 8000 شهيد نصفهم من الأطفال والباقي نساء ومسنون ومدنيون لا علاقة لهم بالحرب أو بحماس.

 ذلك غير عشرات آلاف الحوامل اللاتي من المفترض أن تحين لحظات الولادة خلال هذه الأيام حيث لا مأوى ولا طعام ولا ماء ولا أدوية.. وحيث تجرى العمليات الجراحية بدون تخدير، وإذا لم تتدخل العناية الآلهية فإن الولادة القيصرية هي الموصوفة طبيا في السابق لأكثر هؤلاء الحوامل. 

لم يستطع قطع الاتصالات والانترنت وفرض الظلام منع وصول صور المأساة إلى العالم. سمعة إسرائيل العالمية صارت لا تطاق حتى في الولايات المتحدة التي خرجت فيها مظاهرات ضخمة غير مسبوقة، لدرجة أن ترامب هدد بطرد المتظاهرين ومنحهم تأشيرة خروج نهائي لو كان رئيسا. 

وفي داغستان رأينا كيف اقتحم آلاف الغاضبين مطار عاصمتها "محج قلعة" بحثا عن إسرائيليين يحتمل وجودهم على طائرة قادمة من تل ابيب وحاصروا فندقا يحتمل نزولهم فيه، ولهول الاقتحام قررت السلطات إغلاق المطار إلى 6 نوفمبر القادم وتحويل الرحلات إلى مطارات روسية أخرى. إسرائيل تتعرض لهزيمة لم تذاكرها في كتب ترسانتها العسكرية المتضخمة