محمد مصطفى موسى يكتب: ارفع رأسك فوق فأنت "وائل الدحدوح"

ذات مصر

 

لا تنفصل "مجزرة الدحدوح" عن السياق العام للمجازر الوحشية، التي يقترفها الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، منذ إطلاقه عملية "السيوف الحديدية"، في السابع من أكتوبر/ تشرين الثاني، للرد على عملية "طوفان الأقصى"، والظاهر أنه بقدرما نجحت حركة المقاومة "حماس" في إذلال إسرائيل، دولةً وجيشًا ومستوطنين، وبقدر ما أصيب الاحتلال إثر ذلك بـ"صدمة نفسية"، بقدر ما سنرى جرائم هوجاء، وقرارات دموية ضد سكان قطاع غزة المحاصر.

حتى كتابة هذه السطور، كان مراسل "الجزيرة" وائل الدحدوح، قد وارى الثرى 12 شهيدًا من ذوي قرباه، منهم زوجته وابنه وابنته وحفيده، إثر قصف منزله في مخيم النصيرات شمالي القطاع، ذلك رغم أن إسرائيل كانت أدرجت المنطقة ضمن المناطق الآمنة، غير أن حميم القنابل الخارقة والحارقة لا يستثني موضعًا ولا تسلم منه بقعة في الأرض، فالمساجد والكنائس والمنشآت العلاجية ومنازل المدنيين هي أهداف على قوائم التدمير، كذلك الإنسان الفلسطيني، بغض النظر عما إذا كان حمساويًا قسّاميًا، أو جهاديًا، أو فتحاويًا، أو شيخًا وهن العظم منه واشتعل رأسه شيبًا، أو امرأة تُحضِّر الجبن والزعتر وزيت الزيتون و"شرائح البندورة" لعشاء عيالها، أو رضيعًا يحبو وادعًا بِساحة داره.

أعظم "معلش" في التاريخ

"إنهم ينتقمون من أطفالنا.. معلش".. بهذه العبارة العفوية، اختزل "الدحدوح" فصول التراجيديا، وهو يرنو بعينين كجمرتي نار، من فرط الحزن والغضب، إلى جثامين ذويه المسجاة في المستشفى، ومضى يقول: "نحن أبناء قطاع غزة جميعنا بغير استثناء، في مرمى النيران الإسرائيلية".. ثم منفعلًا: "ليخسأ جيش الاحتلال، ويخسأ نتنياهو".

هذه الـ"معلش" لفتت انتباه سيدة لا أعرفها ولا تعرفني، فكتبت على موقع التغريدات القصيرة "إكس": أظن أن "معلش وائل الدحدوح" ستغير دلالة هذه المفردة في اللهجة المحكية، من كلمة تؤشر إلى قلة الحيلة، إلى كلمة تحمل معاني الصبر والترقب والوعيد، إن "هذه المعلش" لا تطلع إلا من جبل".

لقد صدقت السيدة تلك، فهذه الـ"معلش" حقًا، فيها من الصبر، بقدر ما فيها من الوجع، وفيها من الجلد، بقدر ما فيها من الأسى، وفيها من الصمود، بقدر ما فيها من انكسار القلب، ومن ثم لا تصدر إلا عن إنسان كالجبال بأسًا.. هذه أعظم "معلش" في التاريخ.

كيف حافظ الرجل المكلوم على ثباته الانفعالي إذ كان يجثو على ركبته إزاء جثامين "لحمه ودمه"؟

بغير "دروشة" أو مبالغات خطابية، إن الرحمن الرحيم أنزل السكينة على قلبه، لا تأويل منطقيًا أو علميًا تجريبيًا آخر، التفسير روحاني معنوي، ففي موقف كهذا، ليس مستبعدًا وليس عيبًا كذلك، أن يتهاوى أقوى الرجال، وليس مستغربًا أن ينهار أصلبهم، لكنه التسليم والاحتساب والإيمان أن الأمر كله لله.

على أي حال، إن لم تكن المجزرة انتقامًا من الأطفال، فلماذا يشكلون نحو أربعين بالمائة من الشهداء؟ وهل حفيد "الدحدوح" قسّامي يحمل السلاح في وجه الاحتلال؟ وهل الشهداء من أسرته يشكلون تهديدًا لأمن إسرائيل؟

الجواب على الأسئلة السابقة هو النفي بالقطع، لكن جيش الاحتلال إذا قتل، لا تسألن عن السبب، ولا تقلّبن في الافتراضات.. ذلك أن التعليل الوحيد والذريعة الكافية كذلك، لإزهاق الأرواح في الأراضي المحتلة أن تكون من "أهلها وناسها الأصليين"، أما إذا كنت صحفيًا فهذا أدعى إلى الانتقام، عبر اغتيالك برصاصة قنَّاص في الرأس، كما حدث للشهيدة شيرين أبو عاقلة، منذ نحو عام، أو اغتيال أفراد أسرتك، كما في حالة "الدحدوح" الأكثر مأساوية وقتامة.

كل صحفي "إرهابي محتمل"

ما يؤكد ذلك، أنه منذ انطلاق العدوان على غزة، سقط 35 صحفيًا على الأقل، ناهيك عن المصابين، الأمر الذي يصفه مركز المعلومات الفلسطيني "وفا" بالجريمة الصهيونية الممنهجة.

وفي تقرير إحصائي يقرر المركز أن استهداف حملة الأقلام، من قِبل حملة البنادق، يمثل ركنًا ركينًا من السياسات الإسرائيلية، وقد بدأت جرائم اغتيال الصحفيين، بتفخيخ سيارة الشهيد غسان كنفاني في بيروت، بواسطة جهاز الاستخبارات "موساد" عام 1972 ومن بعدها لم تجف دماؤهم، حتى إنه قبيل استشهاد "آل الدحدوح" بيومين فقط، قصفت الطائرات منزل مراسل راديو الشباب محمد علي "أبو عهد"، فالتحق بقاطرة الأحياء الذين هم عند ربهم يرزقون.

كل صحفي في الميزان الإسرائيلي قد ينتمي إلى "الإرهاب المحتمل"، وفق التعبير البغيض، وعليه فحبذا لو اغتيل، ذلك أن الخلاص منه سيطمس أدلة الإدانة، لكن "مجزرة الدحدوح" فيها درجة أشد من الدناءة، فالتصفية الجسدية لم تعد مقتصرة على الصحفي بذاته، بل على ذويه أيضًا.

واللافت للانتباه أن المجزرة هذه المرة، لم تطمس "سوابق الاحتلال"، وإنما زادتها نصوعًا وثباتًا، ودموع الرجل التي انسابت من مآقيه حارةً أمام عدسات العالم، مثلت دليلًا إضافيًا على تورط الكيان في جرائم تطهير عرقي، ليست أقل من جرائم النازية، وكذا على تهافت أكاذيبه بأنه يستهدف فصائل المقاومة الفلسطينية فحسب.

إن اللحظات الثقيلة التي شاطرت فيها الجماهير العربية وائل الدحدوح آلامه، وتوحدت وجدانيًا فانفعلت عاطفيًا معه، كانت تكثيفًا للصورة المأساوية، واختصارًا للسيناريو الممتد الذي يعيشه سكان القطاع، سيناريو متكرر كالإصباح والإمساء: سقوط قذيفة تشيع الدمار وتبعثر الأشلاء في محض ثوانٍ.. وبغير سبب.

كما إن استشهاد "آل الدحدوح" يُعرّي سوءات العالم "الحر"، في بث على الهواء مباشرةً.. إن هذا العالم "الحر" محض أفّاق تسوقه الولايات المتحدة إلى إدانة الخنجر الحمساوي، وتبرير وكذلك تأييد اليورانيوم الأبيض، المحرم دوليًا، متى كان إسرائيليًا، إن هذا العالم الحر محض مدلس متواطئ لم ينبس ببنت شفة، إزاء جريمة حرب في فجاجة قصف المستشفى المعمداني، والأحقر من ذلك أنه حين تكلم، كان لسانه عبريًا مبينًا، فإذا به يهرطق بأن حركة الجهاد ربما قصفت المنشأة العلاجية لتوريط إسرائيل، واحة الديمقراطية المزعومة، في الجريمة المستهجنة، كذلك لم يؤنبه ضميره إذ طنطن بأكذوبة أن "حماس" ذبحت أربعين طفلًا إسرائيليًا.

سقوط خرافة "الجيش الأخلاقي

لكن.. ومثلما غلبت فئة قليلة من رجال المقاومة، فئة كثيرة من جنود الاحتلال، وأسقطت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، في عملية "طوفان الأقصى"، أسقطت دماء ودموع "آل الدحدوح" خرافة أنه جيش أخلاقي، وفضحت الأكاذيب المؤسساتية لـ"التشكيل الإجرامي" الذي يُطلق عليه دولة إسرائيل.

وكما كانت تقارير المراسل النشط الإخبارية تميط اللثام عن الحقائق المجردة، ها هي دماء ذويه تؤكدها بالبراهين الدامغة، ودموع الإنسانية لا الجبن التي ذرفها الرجل تحت وطأة الأسى، ستظل بالمرصاد لتجّار التدليس.

إن عدسات الكاميرات التي طالما اتبعت وتابعت "الدحدوح" إذ كان يعد تقاريره وسط النيران، وبين ركام البيوت، وأشلاء الشهداء، نقلت صورته إذ هو يجثو على ركبتيه، وإذ هو يحمل بين يديه حفيده الرضيع، وإذ هو يتمتم أن الحمد لله، فمن يكون الإرهابي؟

في كلمته المقتضبة بعد استشهاد ذويه، لم يدعِ "الدحدوح" وهذا من حقه، شرفًا رفيعًا، ولم يتطرق إلى مآثر أحبائه الراحلين، ولم يسهب في وصف ألمه الذاتي، بل اكتفى ردًا على سؤال عما إذا كانت الجريمة انتقامية منه شخصيًا بقوله: "مع الأسف كل شىء وارد فى هذه الأيام، كل الخطوط الحمراء تم تجاوزها، نحن نسجل ونقوم بواجبنا على أكمل وجه، وسط الأشلاء والجرحى ووسط الدمار، ونتحلى بمهنية وننقل ما يقع على الأرض وتصوّره الكاميرا بدون مونتاج ولا قص ولا تهوين ولا تهويل".

هكذا يصير شهداء "آل الدحدوح" أهم خبر في مسيرة الرجل الصحفية، وهم البرهان الأنصع على أن الإرهاب ليس فلسطينيًا، كما تتشدق إسرائيل، وكما تؤّمن الولايات المتحدة وراءها، فالإرهاب إسرائيلي، وسفك الدماء العشوائي إسرائيلي، والوحشية إسرائيلية، والجرائم التي يصمت عليها العالم متواطئًا متخاذلًا، لن تسقط بالتقادم، لأن خبرًا لدينا توثقه الصورة ويعززه الصوت وتؤكده دموع "الإنسانية" والكلمات المؤثرة: "هنا شهداء ومصابون، ابني وابنتي وأشقائي وأبناء عمي، لكن بقي لنا وطن وكرامة، وهذا أهم من كل شيء، وبقيت لنا الإرادة واعتمادنا على الله، وإيماننا الراسخ".

تبقى الحقيقة

إن وائل الدحدوح قدّم فلذات كبده وزوجته شهداءَ ليبقى الوطن والكرامة، لكنه نسي على ما يبدو، بينما هو في أتون الصدمة، أن يقول إن الحقيقة أيضًا، بقيت له، ولأهله الأحياء منهم والشهداء، ولكل فلسطيني مرابط على أرضه، رغم القذائف المحرمة دوليًا، ورغم العالم "الحر" الذي يطفف الميزان، ورغم مزاعم محاربة الإرهاب التي يتستر ويستتر خلفها الإرهاب الإسرائيلي، ورغم التضييق على الرأي والخبر والمعلومة، في المؤسسات الإعلامية العالمية، وشبكات التواصل الاجتماعي.

رغم الزيف والإفك والبهتان، ستبقى الحقيقة، وسيبقى رأس وائل الدحدوح مرفوعًا يطاول عنان السماء.