فراج اسماعيل يكتب: لماذا يكرهون الآخرين ويكرهونهم؟!

ذات مصر

في أي مكان وزمان كرهوا من حولهم وانعزلوا عنه في جيتوهات وأثاروا مخاوف أهل البلاد الأصليين بأنهم قد ينقضون عليهم ويطردونهم منها.

قصة طويلة لا تنتهي منذ حكايتهم مع فرعون مصر حتى يومنا هذا.

 استمع الفرعون لنصيحة كهنته بأنهم سيتكاثرون ويسيطرون على مصر وهم قوم غرباء طارئون عليها، فاستعبدهم وخاض حرب إبادة نسل لكل مواليدهم من الذكور، ثم طاردهم إلى خارج مصر، فابتلعه البحر المتفجر بأمر السماء للنبي موسى عليه السلام.

لا أظن أن نصيحة الكهنة جاءت من فراغ. لا علاقة للنبي موسى عليه السلام بذلك، فهو مأمور بدعوة قومه إلى الله الواحد وكفهم عن خطاياهم. لكنهم انقلبوا عليه وعلى النبي هارون وعلى نبيهم "إشعياء" الذي كتب نصائحه إليهم في سفره ليكسبوا حب الآخرين ويتخلوا عن الكراهية والعنف والشقاق والأطماع الذي أزال مملكتهم الواحدة التي ظلت 80 عاما متماسكة في عهد النبي داود والنبي سليمان، فانقسمت إلى دولتين ضعيفتين شمالية وجنوبية. تجاهلوا نصائح إشعياء فانتهوا إلى السبي البابلي وإلى الشتات.

كان إشعياء ناصحاً ولم تكن نبوءة لهم لقتل أهل غزة كما قال نتنياهو، باعتبارهم أشرارا ظلاميين. تقسيم عنصري بغيض عاشوا عليه واقتتاوا منه سلب حقوق الآخرين وممتلكاتهم وأراضيهم.

وظلت الكراهية تطاردهم في أي أرض حلوا عليها، وفي كل الأزمنة التي جاءوا خلالها إلى الدنيا.

بعض فصول الكراهية يمكن فهمها على أنها حروب دينية تشن ضدهم مثل كراهية الفرعون التي يقدم القرآن الكريم والكتاب المقدس بعض تفاصيلها.

ولكن هناك فصولا كثيرة لا تُفسر بذلك. أبرزها كراهية الأوربيين التي وصلت إلى الهولوكوست النازي، وقد كان رد فعل عنصري مشيناً من هتلر ردا على عنصريتهم ومؤمراتهم.

وكما استغلوا هجوم 7 أكتوبر على غلاف غزة لكسب تعاطف العالم والحصول على ضوء أخضر لحرق الأخضر واليابس وقتل البشر على هويتهم الفلسطينية، فعلوا الأمر نفسه عقب محرقة النازية.

بعد تأسيس دولة إسرائيل واعتراف الغرب وأوروبا والدول العظمى بها بدءا بالاتحاد السوفيتي، حولوا "الكراهية" التاريخية ضد اليهود إلى عقيدة تشرع لهم رد الفعل المتوحش، ومنها جعلوا كل حروبهم ضد أصحاب الأرض "الفلسطينيين"وبقية العرب، حروبا دينية، وأضافوا كل المسلمين بوضع "المسجد الأقصى" على رأس أهدافهم عقب احتلال القدس الشرقية في حرب الأيام الستة.

لم تنجح المحاولات العربية في إبعاد "اليهود واليهودية" عن صراعهم مع الاحتلال، ووضعهم في خانة مغايرة لخانة "الصهاينة" الذين يحاربون ويحتلون أراضيهم، وشردوا الفلسطينيين في النكبة الأولى عام 1948، ويستهدفون في حربهم الحالية على غزة، نكبة ثانية لا تبقي ولا تذر فلسطينيا واحدا، وتجعل من إسرائيل دولة دينية يهودية توراتية خالصة لا دما مغايرا للدم اليهودي فيها.

تصاعدت الكراهية لليهود في أنحاء العالم، والتي يسمونها العداء للسامية بفعل سلوك الحكومة الدينية المتطرفة التي تقود إسرائيل، واستخدامها لمدلولات دينية هي أقرب للأساطير في تبرير الإبادة الجماعية لغزة.

استخدم نتنياهو في 25 أكتوبر الماضي في ظل احتدام حربها على غزة  "نبوءة إشعياء" ويعني بذلك أنه يخوض حربا دينية وفقا للشريعة اليهودية مستنداً على نبوءات في سفر "إشعياء" وهو أحد أنبياء اليهود، في القرن الثامن قبل الميلاد، أي عاش بعد موت النبي سليمان الذي لا يؤمنون بنبوته، وقبل السبي البابلي لليهود.

نبوءات إشعياء تتكون من 66 إصحاحا في سفر هو واحد من الأربعة أسفار الكبرى في الكتاب المقدس عند اليهود، يضاف إليها 12 سفرا صغيرا.

ونبوءات إشعياء الذي لم يرد ذكره في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، هي في مجملها نصائح لليهود بالعودة إلى الله والعمل بما أمرهم به حتى يظفروا بحب الأمم المحيطة بهم في ذلك الزمن، وكانت أمما وثنية في مصر في زمن الفراعنة وفي أشور وفي بابل وفي فارس.

والنبوءة التي ذكرها نتنياهو جاءت بمعنى عام مبهم لا يعرف المقصود منها،  فهناك 66 إصحاحا، منها الاصحاح التاسع عشر الذي يتحدث عن مصر في عهدها الفرعوني وما سيحل فيها من خراب وجفاف للنيل. والمفروض أنها نبوءة تتناول حصول ذلك في الزمن القديم.

وهناك الإصحاح  السابع عشر عن ما سيأتي لدمشق، والإصحاح 23 عن صور في لبنان ، واصحاح آخر عن بلدة في الأردن.

فهل كان يقصد بتحقيقه نبوءة إشعياء كل تلك البلاد؟!

على أي حال.. فإن علاقات الدولة اليهودية الدينية والسياسية والجغرافية مستمدة من "التلمود".. شريعة شفوية تشكل مصدرا لحياتهم اليومية وقراراتهم وتعاملاتهم الدنيوية ونظرتهم العنصرية إلى الآخرين.

وتقوم فلسفته على العنف والقتل والحرب.

ويعتبر حاخاماتهم "التلمود" كتابهم المقدس الأول، ويأتي التوراة ثانيا.

ولا يوجد تلمود واحد. هناك التلمود الفلسطيني الذي جمعه اليهود الذين بقوا في فلسطين بعد السبي البابلي، والتلمود البابلي وجمعه الذين أسرهم ملك بابل.

ثم توحد التلمودان معاً لاحقا في القرن الخامس الميلادي في كتاب  واحد، عبارة عن شروح للتوراة من وجهة نظر أصحابها واجتهادات شخصية تجمع بين ثقافات مختلفة.

ورغم أن الهدف كان الحد من انعزالهم عن مجتمعاتهم المحيطة بسبب تعصبهم، إلا أن العزلة والجيتوهات والبروتوكولات زادت تغولا.. إذ إن تلك الاجتهادات التلمودية جعلتهم لإيمانهم بها يرفعون سقف الكراهية للعالم من حولهم، وفي المقابل تكون ردة الفعل ضدهم مشابهة.

لذلك لا يمكن تجاهل الاستدلال الديني الذي استخدمه نتنياهو تبريرا لإبادة غزة، وكذلك تصريحات وزراء حكومته الأشد تطرفا دينيا في تاريخ دولتهم مثل إيتمار بن غفير زعيم حزب عوتسيما يهوديت "القوة اليهودية"وزير الأمن القومي الذي عرف بتصريحاته العنصرية المعادية للعرب، وبني رصيده السياسي على كراهية العرب وعقيدة التفوق العرقي التي يؤمن بها ويجعلها منارا لطريقه كالنازية تماماً. ويسعى لإحداث تغيير جوهري في السياسة الإسرائيلية، يعيد فيها "السيادة اليهودية الكاملة على أرض إسرائيل".

وكان طائشاً ومتهوراً اقتحم المسجد الأقصى مرات عديدة وحاول هدمه، وقاد عدة مجموعات من المستوطنين إلى الصلاة في باحته. واستخدم جملته التحريضية "إهدار الدم" في تعليماته لشرطة الاحتلال بعد توليه لحقيبته الوزارية.

ومن كتلته وحزبه وزير التراث عميحاي إلياهو الذي هز العالم أمس الأحد بتصريحه أن إلقاء قنبلة نووية على غزة أحد الخيارات، وقوله إنه "لا يوجد مدنيون غير متورطين، لن نسلم المساعدات الإنسانية لهم، يجب عليهم حل مشكلتهم بأنفسهم بالذهاب إلى إيرلندا أو الصحارى"!

ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش زعيم حزب الصهيونية الدينية المتطرف الذي ذكر أنه يسترشد بالمبادئ الدينية في الكتاب المقدس وأن استراتيجيته الاقتصادية تشع بالمعتقدات المنصوص عليها في التوراة.

تظاهرات طلاب حامعة هارفارد وجامعات أخرى في الولايات المتحدة ضد الإبادة الجماعية في غزة، قوبلت بشعارات دينية تلمودية من الطلاب اليهود. ذلك يعبر عن غريزة الخوف التي تجعلهم لا يعيشون بدون حروب وإهدار للدماء لشعورهم بأن كل "الأغيار" يعادون السامية ويكرهون اليهود ويخططون لسحقهم والخلاص منهم.

تميط حرب غزة اللثام عن مستقبل تعايش الدولة اليهودية في المنطقة مع جيرانها. لا سبيل إطلاقا إلى هذا التعايش في ظل اعتمادهم الأساطير الدينية والتعامل معها كمقدس سماوي.

مشكلة اليهود عبر التاريخ أنهم يتعاملون حتى في أبسط الأشياء، مع ممتلكات الأغيار، على أنها لهم، وأصل من أصولهم "، وإرث من ميراثهم.

عندما نزلوا سائحين لأول مرة في دبي بعد توقيع اتفاقيات ابراهيم أو ابراهام للتطبيع، سرقوا الملاعق والشوك والسكاكين والملاءات من الفنادق التي نزلوا فيها، وتركوا قاذوراتهم وفضلاتهم!

من المستحيل وليس فقط من الصعب التطبيع مع دولة تقوم على تأويل بشري خاطئ للشريعة اليهودية وضعته اجتهادات شخصية في الماضي البعيد عندما عانوا أزمات البقاء والسبي، وجعلوها أساس أطماعهم وعنفهم وحروب البقاء والاستقلال الثاني الذي أشار إليه نتنياهو. 

لن تكون غزة آخر الحروب.. وليست سيناء بعيدة عن أطماعهم ومفاهيمهم الدينية الخاطئة.

قصة الخروج من مصر عبر صحراء سيناء في "سفر الخروج" تسيطر على عقلية المتطرفين اليهود الذين يقودون السياسة الإسرائيلية حاليا،  وتحدد خطواتهم القادمة.

إنها أكثر وأفظع من مجرد تهجير قسري للغزيين إلى سيناء.