«الصوفية العالمية».. حركة دينية بلمسة يهودية

ذات مصر

يزخر التاريخ بحركات وطوائف خرجت من رحم الأديان السماوية، منها ما أتبع ما خرج من الناموس الأول وأخرى سلكت طريقًا مختلفًا حثت أتباعها على التخلي عن معتقداتهم في سبيل الرقي والسمو، والاخيرة حال حركة "الصوفية العالمية".

ولد في مدينة بارودا الهندية عنايت خان، سنة 1882، لأسرة مسلمة مرموقة، إذ كان حفيدا للحاكم تيبو سلطان، حاكم مملكة ميسور، مملكة سابقة في جنوب الهند، وأصبح مغرمًا بالموسيقى مع خلفيته الإسلامية.

تأسيس الصوفية العالمية في أوروبا 

كان عنايت مشوشًا في بدايته، يبحث عن شيء لا يدري ما هو، في أعماق نفسه كان يشعر بأن صوت يناديه، وظل الأمر يراوده أيام وليال حتى قادته الصدفة في مرة وألتقى الشيخ سعيد محمد مدني، أحد أبرز شيوخ الطريقة التشستية في القرن العشرين، في منزل صديقته وتتلمذ على يده لسنوات. 

عنايت خان، الأب المؤسس للصوفية العالمية

وفي أحد الأيام دعاه شيخه وقاله له: "هيا انطلق يا طفلي نحو العالم وقم بتوحيد الشرق والغرب بواسطة هارونيا موسيقاك، قم بنشر الحكمة الصوفية لأنك موهوب من الله الرؤوف الرحيم".

سريعًا انطلق عنايت إلى أوروبا، وبدأ رحلة إلى الولايات المتحدة وبرزت فكرة تأسيس حركة صوفية تجمع بين التقاليد الصوفية والموسيقى، وبالفعل ما بين عامي 1910 و1912 أسس حركة «الصوفية العالمية» على أن تكون ممارستها بطريقة معاصرة يجتمع كل المختلفين في العالم تحت شعار واحد، ألا وهو وحدانية الخالق.

عنايت خان

يعتقد عزيز الكبيطي إدريسي، في كتابه التصوف الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية، إن أول شخص صوفي شهير توجه بخطاب للأوروبيين والأمريكيين كان عنايت خان، إذ أنه لم يعتمد على إنشاء طريقة صوفية بالمعنى التقليدي إنما عمل على خلق حركة روحية عالمية.

حركة صوفية بعيدة عن الإسلام 

ولعلّ ما ميز حركة عنايت الوليدة أنه وجهها إلى الغربيين أنفسهم، ولم يقتصرها على المسلمين من المهاجرين. وأخذ عنايت مفهوم التصوف الإسلامي وأنشئ حركة، أقرب إلى دين جديد يذوب بداخلها كل الأديان، فيمكن للمسلم والمسيحي واليهودي والبوذي الإنضمام والبحث بداخله عن السلام والوئام والحب والخير وأن يؤمن بوحدانية الرب.

قدم عنايت خان نوعًا جديدًا من التصوف لم يكن سائدًا في العالم الإسلامي، إذ كان يعتقد بكونية التصوف التي تتجوهر فيه الحقيقة الباطنية الدينية الواحدة التي تحملها جميع الأديان بالرغم من أختلافتها الظاهرية، فهي كانت أقرب إلى الحركات الفلسفية.

عنايت برفقة عائلات أوروبية

وعبّر عن تلك الفكرة في كتابه "تعاليم المتصوفين" حينما قال: "لا يمكن أن تكون هناك أديان كثيرة، توجد ديانة واحدة، لا يمكن أن تكون هناك حقيقتان ولا يمكن أن يكون هناك إلهان وسيدان، كما أنه يوجد إله واحد ودين واحد، وكذلك يوجد سيد واحد وحقيقة واحدة.

تؤكد الطريقة أنها لا تروج لدين معين، أو عقيدة، أو مجموعة من المعتقدات، إنما تستمد تعاليم وممارسات الطريقة الصوفية من جميع التقاليد بروح الاحترام والإبداع. كما أنها تستند إلى التعاليم الشفهية عبر مدرب روحي، والذي هو بمثابة شيخ طريقة، لكن في صورة أكثر حداثة، لتعليم المتدرب الشعور بالسلام والتواصل مع ذاته ومع خالقه عبر التأمل باستخدام الموسيقى.

عنايت خان يعزف الموسيقى

أما عن رؤية عنايت للإسلام، يقول عزيز الكبيطي، في كتابه "التصوف الإسلامي في الغرب" إن عنايت كان يحث أتباعه والمتأثرين به على احترام الدين الإسلامي باعتباره رسالة إلهية سماوية وتكريم نبي الإسلام لكونه مبعواً إلهيا. وركزت رسالة عنايت في حركته حول وحدانية الخالق، وجعل الموسيقى محركًا في الطقوس.

رؤية الصوفية العالمية للإسلام 

تقول الطرق المتصوفة إن جذور التصوف تعود إلى عهد الرسول محمد وفترة الصحابة، ويرون أن أول من مارس التصوف كان الرسول محمد بن عبد الله نفسه، حينما دخل الخلوة في غار حراء.

تختلف بشكل جوهري صوفية عنايت عن الصوفية الإسلامية المنتشرة في عالمنا الإسلامي، ففي حين تذكر الصوفية العالمية أنها نظام باطني لرعاية التجربة المباشرة لـ "طبيعتنا الأساسية" التي تتمثل في الوصول إلى الوعي النقي، وتحقيق الذات، وعدم الازدواجية، والوحدة، والاستنارة. وأن المشارك في هذه التجربة المقدسة سيحظى بسعادة طبيعية، ترتكز الإيمان بالله وروسوله وكتبه، وأتباع الشيخ في الأذكار والحضرات، وكل طريقة تختلف في التعريف بالنفس ودرجات الإيمان إلا أن جلها أجتمع على أن يكون الأساس إسلام المرء.

جلسة في حركة الصوفية العالمية

أما عن رؤية عنايت للإسلام، ينقل الكبيطي، عن الباحثة الأمريكية جيزيلا ويب: "آمن حضرة خان بأن القدر دعاه إلى نشر رسالة عالمية للعصر والتي تتعد بأن التصوف لن يكن مرتبطًا في الأساس بالإسلام التقليدي وإنما يشمل تعاليم عالمية خالدة مرتبط بالسلام والانسجام والوحدة الأساسية لجميع المخلوقات.

بير.. شيخ طريقة «مودرن» 

بعد وفاة عنايت خان سنة 1927، انتقلت زعامة الحركة من شقيقه إلى نجله ثم ابن عم شقيقه، وجميعهم كان لديهم حس فني، وتدريجيًا بدأت تخرج زعامة الحركة الصوفية التي لديها صبغة إسلامية من مسلمين، وأصبحت سيتارا بروتنيل أول امرأة مسيحية تتزعم الصوفية العالمية سنة 1990. 

في عام 1998 أعلنت سيتارا أن إلياس أميدون سيخلفها في منصب زعيم الطريقة الصوفية بعد وفاتها، وبعد 6 سنوات توفيت في 2004 ودُفنت في باحة كنيسة شالدن جرين. ومذ ذلك الحين، يترأس إلياس أميدون زعامة الإرشاد الروحي للطريقة الصوفية العالمية، ويفتخر في لقاءاته بأنه تلميذًا لدى فضل عناية خان.

في سيرته الذاتية، يفتخر إلياس بجمعه علوم عدة من الأديان كافة، فبداية من دراسته للصوفية القادرية في المغرب، ومع معلمي ثيرافادن البوذيين في تايلاند، ومعلمي الأمريكيين الأصليين في جمعيات نجمة الصباح، والرهبان المسيحيين في سوريا، ومعلمي زن من وايت بلوم سانغا، والمعلمين المعاصرين في تقليد دزوغتشين.

إلياس عميدون وبجواره أحد الشيوخ

تشمل كتبه: المسار المفتوح - التعرف على الوعي غير المزدوج؛ الدواء المجاني - تأملات حول الوعي غير المزدوج؛ طبول الحب - آراء وممارسات وقصص صوفية؛ كتاب الومضات؛ مناجاة - أربعون صلاة، وقد قام بتحرير المجموعات الأدبية: صلوات الأرض؛ صلوات الحياة؛ وصلوات لألف عام.

في السنوات الأخير بات لعب دورًا حاسمًا في تأسيس مسار إبراهيم الخليل، وهو مشروع دولي مكرس لمساعدة الدول الشرق أوسطية على فتح شبكة من الطرق الثقافية ومسارات المشي في جميع أنحاء المنطقة. وهو ما زال يسافر على نطاق واسع لتدريس المسار المفتوح وبرامج أخرى للسلك الصوفي.

عمل إلياس لسنوات عديدة في مجالات السلام والنشاط البيئي في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، ومع القبائل الأصلية في تايلاند وبورما في قضايا الاستمرارية الثقافية وحقوق الأرض. 

تمويل يهودي للصوفية العالمية

كل الأعمال السابقة لإلياس يمكن اعتبارها إرهاصات لحركة دينية تطورت حتى فقدت هدفها، لكن لهذه الحركة دور خفي، إذ كان للصوفية العالمية دور فعال في تأسيس مسار إبراهيم الخليل، يجمع فيه أتباع اليهودية والمسيحية والإسلام في مسار واحد، وذلك من منطلق الدبلوماسية الروحية. 

خريطة المسار الإبراهيمي

حذرت هبة جمال الدين في كتابها "الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي: المخطط الاستعماري للقرن الجديد"، من التيارات الصوفية المنشئة حديثًا وقالت إنها تشكل خطرًا ليس فقط في الأفكار التي تروج لها، ولكن أيضًا في انتقالها من مجرد مفهوم فكري إلى العمل العملي وانتشارها في المجتمعات المحلية. 

ربطت الباحثة بين حركة عنايت خان وارتباطها بالماسونية لا سيما وأنها تتلقى تمويلًا من الملياردير اليهودي جورج سوروس، وكيف دعمت الحركة مشروع "مسار إبراهيم" الذي أعلن عنه للمرة الأولى سنة 2006، لتطبيق مفهوم الدبلوماسية الروحية على أرض الواقع، لبناء ذاكرة تاريخية جديدة تجمع بين طرق الحج المشتركة تحت شعار "معًا نصلي". 

جزء من المسار الإبراهيمي في فلسطين

المشروع المزمع إنشاؤه، سيجمع مسيرات سير مشتركة بين أصحاب الديانات الثلاثة، يتخلى فيها المشاركين عن الشعارات السياسية وتقتصر على الشعارات الدينية والثقافي، وهذا بالضبط ما تسعى دول في المنطقة لتدشينه، حتى لو كان الأمر بطيئًا، لكن بدأت دول بحفر دروب وترميم مسارات تتكامل جميعها مع المسار الإبراهيمي.

ويتشابه كثيرًا هذا المشروع مع إنشاء الإمارات البيت الإبراهيم، الذي يجمع بداخله مبان لأصحاب الديانات الثلاثة، فضلًا عن موجة التطبيع التي انفجرت في الوطن العربي منذ 2020.

وقد يخلط البعض بين حركة الصوفية العالمية وبين الاتحاد العالمي الطرق الصوفية، الذي يرأسه الشيخ علاء أبو العزائم، إما بسبب تشابه الاسم أو الاستعانة ببعض الحركات الصوفية المستخدمة في الحضرة، والخلط بينهما ليس في محله، فالأولى كما وضحنا لم يعد لها صلة بالإسلام بشكل واضح وإنما أضحت حركة روحية، بخلاف الاتحاد الذي يجتمع تحته حركات وجماعات صوفية معروفة.