إبراهيم عبد المجيد يكتب: «حاجات قديمة للبيع».. رحلة مع النوستالجيا

ذات مصر

مع هذا الكتاب، قلت أذهب إلى النوستالجيا التي تقريباً عشتها كلها، لعلي أراها من جديد وأسمع أصواتها، وهذا ما حدث.

الكتاب للكاتبة الشابة منى عبد الوهاب، عنوانه «حاجات قديمة للبيع – حكايات المهن المصرية المندثرة»، ومن إصدار دار «مزيج».

صغير الحجم؛ لكنه حافل بالرؤى والمعلومات. أحاديث وافية عن مهن انقرضت، مثل: البوسطجي، والسقا، والقرداتي، والأراجوز، وسمكري وابور الجاز، والمسحراتي، والطرابيشي، وبائع العرقسوس، والحاوي، وعازف البيانولا، والمعددة. 

أعجبني البحث عن أصل كل مهنة ونشأتها وتطورها قبل الغياب.

البوسطجي مهنة ظهرت أيام الفراعنة لنقل البريد داخلياً وخارجياً، باستخدام سعاة يسيرون على الأقدام على ضفاف النيل، وإلى الخارج يسلكون الطرق التي تسلكها القوافل والجنود. أول وثيقة جاء بها ذكر البريد يرجع تاريخها إلى عهد الأسرة الثانية عشرة، وهي وصية كاتب لوالده يطلعه فيها على أهمية صناعة الكتابة، والمستقبل المجيد الذي ينتظره في وظائف الحكومة.

كذلك مهنة السقا التي انتهت بعد ألف عام بموت آخر سقا، وكيف أنها مهنة توارثتها عائلات بأكملها، أبرزها عائلة «منيعم» في مركز منفلوط التي ينتمي إليها عبد المنعم بكر محمد منيعم، آخر سقا في مصر. كيف قلَّت المهنة شيئاً فشيئاً منذ عام 1865 بعد إنشاء أول محطة لضخ المياه في القاهرة، في عهد الخديوي إسماعيل؛ لكنها استمرت. كيف كان يحصل السقا على رخصة، والاختبارات التي يمر بها في حمل المياه، وكيف صار السقاؤون ست طوائف؛ هي: طائفتا باب اللوق؛ واحدة تنقل المياه على ظهر الإبل والثانية على ظهر الحمير. وطوائف باب البحر وحارة السقايين وقناطر السباع، وطائفة الكيزان التي سميت بذلك لأن السقا كان يحمل بيده «كوزاً» يقدم به المياه للعابرين. والجميل حكاية «أبوك السقا مات» وأصلها الأسطوري عن السقا الذي يحمي ابنه الضعيف المريض فلا يعتدي عليه الأطفال، وكيف يوم موت الأب اجتمع أطفال الحارة أمام بيته يرددون ليسمع الطفل: «أبوك السقا مات».

مع القرداتي نعرف كيف كانت وسيلة تسلية اندثرت كغيرها، بسبب التطور في أمور التسلية من تلفزيون وإذاعة وغيره. وصف المهنة والنسناس وأماكن عزبة القرود في القاهرة والإسكندرية، وكيف انتهت وتحولت إلى أماكن للحشيش والمخدرات. كيف كان استئناس القرود عادة مصرية منذ الفراعنة. أنواع القرود التي كانوا يستأنسونها، وكيف كان القرد يصاحب المصري القديم في الصيد مع كلابه ويشاركه في الزراعة وجمع المحاصيل والرقص والموسيقى. هذا ما كشفته مقابر أثرية مثل مقبرة السيدة «حتبت».

أما الأراجوز الذي اندثرت مهنته أيضاً كما اندثرت مهنة مسرح العرائس، فيرجِّح بعض الباحثين مثل الفرنسي شارل ماتيه في «كتابه تاريخ الماريونيت» أنها ابتكار مصري قديم من العصر الفرعوني لمخاطبة الملوك. «أراجوز» تحريف لكلمة «أرجوس» المصرية القديمة التي تعني «يصنع كلاماً معيناً» والبعض يقول إنه نشأ في الصين أو الهند، ووصل إلينا عن طريق بلاد فارس. كما أن هناك من يقول إن أصله تركي، فأراجوز هي الكلمة التركية «قرقوز» وهي اسم الشخصية الرئيسية في خيال الظل التركي.

كان آخر أراجوز مصري هو عم صابر المصري الذي توفي عام 2019، والذي عمل 55 عاماً ينشر الضحك على وجوه الكبار والصغار، فهو مؤسس فرقة «ومضة» التي كانت تهتم بالتراث الشعبي المصري، وتقدم عروضاً للأراجوز وخيال الظل. طبعاً يسبق ذلك حديث رائع عن محمود شكوكو وإسهاماته الفنية. 

مع مهنة سمكري وابور الجاز يقفز النداء الذي سمعه جيلي كثيراً «أصلَّح بابور الجاز» الجملة التي كانت كلما سمعها نساء الحارة يتجهن إلى السمكري لإصلاح البوابير نظير قرشين صاغ! مهنة اندثرت أيضاً لكن لا تزال في بعض القرى الريفية، بينما كانت قديماً لا تخلو حارة من صاحبها. تاريخ البوابير وكيف دخلت مصر في عشرينات القرن الماضي، مع قدوم شاب أرمني هو «أفاديس نارسيس تشيكجيان» الذي وفد إلى مصر فاراً من مذابح العثمانيين للأرمن وهو في العشرين من عمره. بالمناسبة الأرمن وغيرهم جاءوا إلى مصر حين كانت أم الدنيا، هم وغيرهم من صناع النهضة في الصناعة والفنون والآداب، وما أكثر ما كتبت في ذلك.

كيف بدأ أفاديس في دكانه الصغير بمنطقة العتبة في بيع بابور «بريموس» الشهير، وكيف مثَّل البابور نقلة نوعية في حياة المصريين، وكيف تطور الدكان إلى مبنى كامل يحمل اسم بريموس. أصل كلمة بابور في اللغات المختلفة وتنوع معانيها، من البخار إلى القطار إلى وابور الزلط أو السفينة. 

ننتقل إلى المسحراتي، المهنة التي أوشكت على الانتهاء بسبب التطور في البناء الذي شهد ارتفاعات لا تساعد المسحراتي أن يسمعه أحد، وما يحمله الناس أو يقتنونه من ساعات ومنبهات والإذاعات وغيرها.

كيف بدأت في صدر الإسلام مع بلال بن رباح الذي اعتاد أن يخرج قبل الفجر بقليل مع ابن أم مكتوم يجوبون الشوارع لإيقاظ الناس لتناول سحورهم، قبل أن يرفع بلال الأذان. كيف حين أمر الحاكم بأمر الله الناس أن تنام بعد صلاة التراويح مباشرة، وخصص جنوداً يطوفون البلاد لإيقاظ الناس للسحور. تاريخ ذلك مع من تناوب على حكم مصر من الحكام. كيف اختلف اسم المسحراتي بين البلاد العربية، فهو المسحراتي في مصر، والمفلح في اليمن، وأبو طبيلة في الإمارات، والنفّار في المغرب، والطبال في لبنان. 

تمشي مع المهن الأخرى التي اندثرت مثل الطرابيش أو صانع الطرابيش. كيف أنها مهنة توارثتها عائلات كاملة منذ عهد محمد علي الذي أنشأ أول مصنع لها في مدينة فوة عام 1825، وحتى آخر دكاكينها في منطقة الغورية. 

مع بائع العرقسوس وندائه الشهير «شفا وخمير يا عرقسوس» أصل النبات وكيف عرفه قدماء المصريين أو البابليون والرومان والعرب. كيف كان شرابه في مصر القديمة مقتصراً على الملوك ورجالهم؛ لأنه يشفي من الأمراض، ثم أخذ طريقه إلى الشعب في العصر الفاطمي. وكيف كان من يمتهن المهنة لا بد من أن يحصل على رخصة. كالعادة حديث عن شكل وزي بائع العرقسوس كما تفعل مع أصحاب كل المهن. أصل الكلمة لغوياً في العربية، فهي من مقطعين: «عرق» بمعنى جذر، و«سوس» بمعنى متأصل، بما يعني امتداد جذور النبات في الأرض.

يأتي الحاوي بما كان يقدمه من مشاهد عنف وغرابة وسيطرة على الثعابين وشرب الجاز وإخراج النار من فمه والنوم على الزجاج والمسامير، وغير ذلك مما كنا نشاهده في الميادين. كيف كان يتم الاستعانة بهم لإخراج الثعابين من البيوت واعتبارهم من طائفة الرفاعية. آخر حواة مصر من الصعيد بيتان: الأول هو بيت علي أحمد نور الدين، بسوهاج، والثاني بيت أبناء راشد الرفاعي، بقنا.

يأتي بعد ذلك عازف البيانولا التي كان يرقص الناس حولها، وتشاهدها النساء من الشبابيك، وكيف كانت من صناعة أبناء الجاليات اليونانية والإيطالية. تعريف وتشخيص البيانولا، وكيف تم اختراعها منذ اخترع توماس أديسون آلة «كينتوسكوب» وكيف أن البيانولا تصغير لكلمة بيانو. 

لنصل في النهاية إلى مهنة المعددات، وهن النسوة اللاتي يرتدين السواد ويتم استئجارهن في المآتم والعزاء. لا تزال موجودة بالريف وإن قلَّت عن ذي قبل، والغريب أنها كانت في بريطانيا مثلاً موجودة، وتوجد شركة تقدم خدمة الندب هذه، ويصل أجر الندابة فيها إلى مائة دولار في الساعة. حديث عن التعديد وتنوعه مع الفقيد من شاب إلى فتاة، ومن رجل لامرأة، ومن أب لأم، ومن أخ لأخت وطفل، ونماذج منها.

هكذا نكون طفنا بإيجاز مع أصل كل مهنة وتطورها، ثم نجد كيف تم تجسيد هذه المهن في الفنون من سينما إلى إذاعة إلى شعر، وأمثلة منها وعليها أتركها لك عزيزي القارئ، حتى لا أغنيك عن متعة قراءة الكتاب الجميل.