عمار علي حسن يكتب: الكتابة تحت حد السيف

ذات مصر

تحتاج الكتابة إلى الحرية، فهي بالنسبة لها كالروح في الجسد، والدم في الوريد، وما نكتبه كأحرار قد لا يجد طريقه للنور عبر  الصحف أو دور النشر في أزمنة العسف والقمع، فنطلقه على صفحات التواصل الاجتماعي، وقد ندخره ليكون شاهدا على زمن عشناه، حُبست فيه الكلمة إلا إذا كانت مزيفة منافقة مخاتلة كاذبة في الغالب الأعم، ليبقى كثير مما نطل به على الناس هو ما يتزاحم تحت السقف الخفيض من ألوان المواربة والمحاكاة والتحايل المحمولة على أجنحة المجاز، وإلا وجدنا من يقول لنا دون أن يطرف له جفن: اصمتوا تماما. لكننا أحيانا لا نجد سبيلا سوى المجاهرة، بل الصراخ، متحملين أي عبء يترتب على ذلك.

للمجازات دورها في التمرير والتنوير، فهي قد تتحول إلى الأجنحة التي تطير بها الكلمات فلا يستطيع أحد حبسها، أو إلى النوافذ الضيقة التي يدخل منها النور ليبدد عتمة الجمود والطغيان. فالبلاغة المفتوحة على تأويلات عديدة، والمجاز متعدد المعنى، الطائر الحائر الفائر، قد يُمكّن الكاتب من الإفلات من أيدي المتربصين بحروفه، ليصل إلى قارئ ذكي، يعرف ما وراء الكلام، وما تحت السطور، يدرك الإضمار إدراكه للإظهار، وكأن هناك شفرة ذكية بين كاتب يراوغ بالمجاز، وقارئ يصطاد المعنى، كي يساعد من يمنحه إياه على الاستمرار.

إننا نردد دوما حكاية الحمل المسكين الذي لم يكن يملك مجازا، فصار وجبة شهية بين أنياب ذئب جائع لا يرحم، فالحمل الغض راح يحدث من يريد افتراسه وفق المنطق والعقل والصدق، فلم يشفع له هذا، لأن قرار التهامه كان جاهزا مسبقا، وكان الذئب في حاجة إلى ذريعة واهية، وحين لم يجدها اختلقها.

والحكاية كما أوردها إمام عبد الفتاح إمام في "معجم ديانات وأساطير العالم" تقول: (ذهب الذئب ليشرب من غدير ماء، وكان على رأس المجرى. ولمح حملا على مسافة قصيرة يشرب أسفل الغدير، فقال لنفسه: "ها هو عشائي! لكني لا بد أن أبحث عن عذر قبل أن ألتهم هذا المخلوق المسكين". ومن ثم فقد صاح في الحمل: "كيف تجرؤ على تعكير الماء الذي أشربه أيها الأحمق؟"، فقال الحمل: "لابد أن تكون مخطئا يا سيدي، فالماء يجري من عندك ليأتي إليَّ، ولا يمكن أن أقوم بتعكيره!"، فقال الذئب: "لا ليس هذه المرة، فقد سبق أن عكرت الماء عليَّ في العام الماضي". فقال الحمل: "لكن يا سيدي لم أكن في العالم الماضي قد ولدت بعد"، فرد الذئب حانقا: "إن لم تكن أنت فلابد أن يكون والدك"، ثم قفز على الحمل المسكين والتهمه).

وإن كانت هذه الحكاية الشهيرة تبين لنا أن الطغيان يصنع أي ذرائع لتحقيق أهدفه، فهناك حكايات عديدة في كل الثقافات تقريبا تحدثنا عن الحيلة التي كانت أداة مقاومة فعالة، والمجاز الذي غفر لأصحابه، أو مكنهم من أن يظهروا جهل الطاغية وسوء عمله، و"بلاغة المقموعين" حسب دراسة د. جابر عصفور، التي طالما واجهوا بها العسف والتعنت والتجبر، وانتصروا عليه بعد جهد جهيد، لهذا قيل: "انتصر الدم على السيف".

والنصر بالمجاز يكون تاريخيا وحاسما وربما نهائيا، فالسيوف تصدأ، لكن بلاغة الكلام تبرق كالذهب، ولا تبليها الأيام، لأنها تتحول إلى حكمة سابغة، وأمثولة راسخة، وقول مأثور، يشكل مع الأيام مرجعية لكثيرين، وإطارا يسندون إليه اٌقوالهم وأفعالهم، ولو يعلم الطغاة هذا لتركوا الكلام السطحي المباشر الذي يقدح فيهم أو يسبهم يمر، لأن مروره سيكون سريعا، وستدوسه الأقدام، ويلفه النسيان، أما الكلام المكتوب بالدم، أو حبر القلب، الطائر فوق أجنحة المجاز، فتتجدد قوته، ويتخذ اللاحقون منه، فيما زمن آت، شهادة على ما كان يجري في زمن كاتبه، ليأتي من يرى "الملك عاريا".