مواكب شعبية بمشاركة الخليفة.. مظاهر الاحتفال برمضان في التراث المصري

ذات مصر

يتميز شهر رمضان بأنماط احتفالية خاص تختلف من بلد إلى بلد، وتجعل للشهر الكريم رونقًا وبهجة متفرِّدة أينما حل في أنحاء بلاد المسلمين.

فعلى مدى قرون خلت، تميّز شهر الصوم المبارك بنمط تراثي خاص في العالم العربي والإسلامي، وبمظاهر شعبية فريدة وثّقتها لنا كثير من المصادر العربية وكتب الرحالة والمستشرقين.

فدائمًا ما ارتبط استقبال شهر رمضان باحتفالات عظيمة لا تزال مظاهرها، أو شيء منها على الأقل، باقية حتى يومنا هذا، مثل المواكب الشعبية التي لم تزل في مدن مصر وقراها، والمعروفة بـ"دورة رمضان"، ويخرج فيها الناس بأعداد كبيرة يتقدمهم الصُنّاع والتجار ليطوفوا الشوارع والميادين للاحتفاء بقدوم الشهر الكريم.

وللمصريين ضلع كبير وفريد في الاحتفالات المرتبطة بشهر رمضان، فقد تعددت مظاهر احتفالاتهم باستطلاع هلال الشهر المبارك المعروفة بـ"ليلة الرؤية"، وتباينت على مر الحقب التاريخية المختلفة التي مرّت بها البلاد تحت حكم الأمويين والعباسيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، حيث تفرّدت كل حقبة ببعض الطقوس والتقاليد الخاصة، وإن بقيت بعض العادات مستمرة منذ دخول الإسلام مصر وحتى اليوم، لكن أكثر تلك الاحتفالات زخما كانت في العصر الفاطمي.

رمضان في مصر الفاطمية

في كتاب "رمضان" لمؤلفه حسن عبد الوهاب، الصادر عن دار القلم بالقاهرة، روى لنا المؤلف عن عناية الفاطميين بشهر الصوم، والاحتفاء به بشكل غير مسسبوق، إذ كانت الاحتفالات تقام تمهيدًا لحلوله، واحتفالات أخرى تقام لإعلان رؤية هلاله، وكان الفاطميون يزيدون من إنارة المساجد عند رؤية الهلال، فتُعلّق المصابيح بأعالي المآذن، وعلى واجهاتها ابتهاجا بقدوم شهر رمضان.

ويحكي الكتاب كيف اهتم الفاطميون بإنارة المساجد في ليلة رؤية هلال شهر رمضان، حتى لقد لجأ الحاكم بأمر الله إلى صناعة تنور هائل من الفضة الخالصة لإضاءة محراب الجامع الأزهر في ليالي رمضان ولم يستطع القوم إخراجه بعد انقضاء الشهر الكريم إلا بعد هدم الحائط المجاور للباب.

ويروي كتاب "رمضان زمان" للمؤلف أحمد الصاوي، أنه إذا ما ثبتت الرؤية وحلّ أول يوم من أيام شهر رمضان، حتى يخرج الخليفة الفاطمي في موكب ترتج القاهرة له إعلانًا بثبوت الرؤية وحلول شهر الصيام.

ويحكي المؤرخون أن العناية بالاحتفال برؤية هلال رمضان استمر بعد الدولة الفاطمية، إذ إن قاضي القضاة كان يخرج والقضاة الأربعة والشهود ومعهم الشموع لرؤية الهلال، وكان يشترك معهم محتسب القاهرة وتجارها ورؤساء الطوائف والصناعات والشعب، فإذا تحققوا من رؤيته، أضيئت الأنوار على الدكاكين وخرج قاضي القضاة في موكب تحفه الفوانيس والشموع والمشاعل حتى يصل إلى داره، ثم تتفرق الطوائف إلى أحيائها معلنة الصيام.

مصر العباسية والعثمانية

وكذلك في مصر العثمانية، فقد كان القضاة يخرجون عند ثبوت الرؤية في موكب شعبي تشارك فيه طوائف الحرف، وقد لبس أعضاء كل طائفة ملابسهم المميزة وبأيديهم نماذج من منتجاتهم، بينما ينطلق جنود الإنكشارية من طائفة مستحفظان المسؤولية عن أمن العاصمة إلى الشوارع والأزقة وهم يصيحون: "يا أمة خير الأنام … بكرة من شهر رمضان صيام.. صيام.."، وفي حالة عدم ثبوت الرؤية كان النداء يتغير إلى: "غدا من شهر شعبان.. فطار.. فطار".

واستمرت حفلات طوائف الشعب خلال عصر محمد علي وحتى مشارف القرن الـ20، تشارك في احتفالات استطلاع هلال رمضان بعد انتقال إثبات الهلال إلى المحكمة الشرعية. فكان الموكب يخرج من محافظة مصر إلى المحكمة الشرعية تتقدمه الموسيقى والجنود بطبولهم، حتى إذا ثبتت رؤية الهلال تطلق الصواريخ والألعاب النارية وتطلق المدافع وتضاء المآذن ثم يمر مركب الرؤية في أنحاء القاهرة معلنا الصيام.

وتخبرنا المصادر التاريخية أن القاضي أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة الذي تولى قضاء مصر سنة 155 هجرية، كان أول القضاة الذين يحضرون لنظر الهلال في شهر رمضان.

وكان القضاة من بعده في العصر العباسي يخرجون مع الناس إلى جامع محمود بسفح جبل المقطم لرؤية الهلال في رجب وشعبان احتياطيا لشهر رمضان، من فوق دكة أعدت لهم على مكان مرتفع بالجبل تعرف بدكة القضاة. واستمروا ينظرون الهلال من فوقها حتى دخل الفاطميون مصر، وانقطع القضاة عن رؤية الهلال من فوق جبل المقطم أو سواء من الأماكن العالية بالقاهرة.

رمضان في مصر المملوكية

ما إن زال حكم الفاطميين حتى عاد القضاة إلى استطلاع الهلال من فوق قمم المآذن. وكانت مئذنة المجموعة التي شيدها المنصور قلاوون المملوكي، بمثابة الموقع الرئيسي الذي كان القضاة في القاهرة يستطلعون من عليه هلال رمضان.

ورغم أن تلك المئذنة لم تكن بحال من الأحوال الأكثر ارتفاعا بين مآذن القاهرة إلا أن مواجهتها للمحكمة الصالحية، حيث كان يجلس القضاة؛ منحها شرف الارتباط باستطلاع أهلة الأشهر الهجرية.

وفي العصر المملوكي كان السلطان يجلس فور ثبوت رؤية الهلال وحلول شهر الصوم في أحد الميادين الكبرى بالقاهرة لاستعراض أحمال الدقيق والخبز والسكر والغنم والأبقار المخصصة لصدقات رمضان بعد أن يكون محتسب القاهرة قد عرضها في الشوارع الرئيسية.

ولا تزال المواكب الشعبية لاستقبال هلال شهر رمضان باقية في مصر حتى اليوم، حيث تخرج تلك المواكب التي باتت تعرف بـ"دورة رمضان" في كل مدينة وقرية بمشاركة كل فئات الشعب الذين تتقدمهم الخيول والإبل المزركشة، لتطوف الشوارع والميادين وسط مظاهر من البهجة والفرح للاحتفاء بقدوم شهر الصوم في كل عام.