نعمة الله التابعي تكتب: المقابر والسُّلطة.. معركة الوجود والهوية

ذات مصر

"التحقت كجنديّ متطوع بقوات التحرير، وها أنا الآن أموت على بُعد خطوات من النصر وبلوغ الهدف لكل هؤلاء الذين سيحيون من بعدنا، لكل الذين سيذوقون غدًا حلاوة الحرية والسلام، أتمنى لكم السعادة، إنني على يقين بأن الشعب الفرنسي وكل المقاتلين من أجل الحرية سيكرّمون ذاكراتنا بمهابة...".

كتب المقاوم ميساك مانوشيان رسالته الأخيرة، ودوَّن فيها هذه الكلمات، إلى زوجته "ميليني"، قبل إعدامه بالرصاص على يد النازيين مع عدد من رفاقه في النضال، في موقع "مون فالريان" بالقرب من باريس، وبعد 80 عامًا من إعدامه، تصل رُفاته في مراسم رسمية إلى مقبرة العظماء الفرنسيين، كأول مقاوم أجنبي وشيوعي يُدفن في البانثيون، وسط احتفاء كبير من قبل الرئاسة الفرنسية.

قرار دخول رُفات ميساك مانوشيان ذو الأصول الأرمينية؛ لترقد إلى جوار عظماء فرنسا كان صاحب اتخاذه إيمانويل ماكرون، وهو حق كفله الدستور بصفته رئيس الجمهورية، أصوات عدة رأت أن هذا القرار يأتي كنوع من التوظيف السياسي، في الوقت الذي أبدى فيه ماكرون تحفظاته على مشاركة حزب التجمع الوطني "اليمين المتطرف"، في مراسم تكريم "مانوشيان"، نظرًا لطبيعة نضال مانوشيان، وهو ما اعتبره الحزب اليميني استغلالًا من أجل أسباب سياسية ضيقة، وليس فرصة لتعزيز الوحدة الوطنية.

واقعة دخول رُفات "مانوشيان" إلى البانثيون، وإعلان الرئيس الفرنسي تحفظاته على مشاركة حزب التجمع الوطني في التكريم، مثلت تجاوز المقابر حدود القدسية والبناء، وإنما مثلت حيزًا لممارسة السلطة ولعصيانها في وقت واحد، ومعبرة عن الأيديولوجيا السياسية للنظام القائم.

كان هناك نمو لعبادة الأبطال الوطنيين في فرنسا، منذ حرب السنوات السبع، وظهرت الحاجة لإنشاء نصب للناس العظام، يميز نفسه عن سرداب الملوك القوطي المكتظ بطريقة اعتباطية في سانت دنيس، في عمارة تعكس سياسة الجمهورية الفرنسية الثالثة، أرادوا مبنى يُمجد الفضيلة لا النسب، والإبداع الذاتي لا التقليدي، وتوجهت العيون إلى كنيسة سانت جينيفيف الأنيقة التي لم تكتمل بعد، بسبب بساطتها الكلاسيكية الجديدة، والتي بدت أن تضع الخطوط للفضائل المرتبطة بالفلاسفة ورجال الدولة الوطنيين.

تقدمت محافظة باريس بطلب للجمعية الوطنية، وتمت الموافقة عليه، بتخصيص كنيسة سانت جينيفيف كمقبرة لعظماء الرجال عام 1791 تعبر عن الانتصار وليس الموت وتُعظم الأبطال في خلودهم، وكان ميرابو، خطيب الثورة الفرنسية، والذي كان يميل للنظام الملكي الدستوري المبني على نموذج المملكة المتحدة، أول من يُدفن فيها باعتباره الأول في الأبطال الثوريين.

قرار دفن جثة ميرابو، واجه كل أنواع الصعوبات، فقد تطلب الدخول إلى البانثيون أن يحمل الناس العظام مزايا مثالية شخصية وعائلية وأيضًا سياسية وفلسفية، وميرابو كان أبعد من كل هذا، وما دفع روبسبير وبارناف اللذين كانت آثام ميرابو واضحة تمامًا لهما، إلى الموافقة على هذا القرار، هو حالة الحزن التي سادت البلاد بعد انتشار خبر ميرابو، لكن بعد ثلاث سنوات من وفاته، صدرت الأوامر في اجتماع للجمعية الوطنية، بنقل رفات البطل "الملوث" من البانثيون، بعدما اكتشفوا أدلة بين أوراق الملك لويس السادس عشر تُشير إلى دفعه مبالغ لميرابو.

ميرابو كان خطيبًا مفوهًا، صاحب قدرة كبيرة على التأثير في الجماهير، وكذلك كان هتلر النازي الذي كان مفتونًا ببراعة نابليون بونابرت العسكرية والاستراتيجية، فبينهما قواسم مشتركة كثيرة منها الطموح في الاحتلال والإبادة، وفي زيارته الأولى والأخيرة لباريس، لم ينس هتلر زيارة قبر نابليون في صرح "ليزانفاليد"، والذي أقيم بعدما عادت جثة الإمبراطور السابق إلى فرنسا بعد وفاته بـ20 عامًا بمنفاه بجزيرة سانت هيلينا.

خلال السنوات الأولى من وفاة نابليون، رفض المسؤولون الفرنسيون عودة جثة نابليون، خوفًا من تحول بونابرت لرمز قومي يلتف حوله معارضو حكم لويس الثامن عشر، وفقًا لكتاب "اليوم الأخير لأدولف هتلر" لدافيد سولار، هتلر اعتبر أن الوقوف أمام قبر نابليون، والذي استغرق دقائق معدودة، أروع لحظة في حياته.

ما أكثر القبور في حياة هتلر، كان يدرك جيدًا قيمتها في تمجيد الموتى، هم تحت الثرى ولكن أفكارهم حية قادرة على صياغة الروح الشعبية وإثارة الشحن الجماهيري، القبور تعمل كالسياسي تروي حكاية المغلوب والمنتصر، فأمر أثناء زيارته لباريس بتدمير نصب الجنرال الفرنسي تشارلز مانجان، لكونه تذكيرًا بمكائد تشارلز في راينلاند، وكذلك وإديث كافيل الممرضة البريطانية التي أعدمتها فرقة إعدام ألمانية؛ لمساعدتها جنود الحلفاء على الهروب من بروكسل التي تحتلها ألمانيا.

هتلر كان تاجرًا ماهرًا في توريد الجثث إلى المقابر وكذلك في استغلالها لدعم أفكاره الفاشية، وكانت أحد أدوات الدعاية التي استخدمها هي تمجيد قتلى الحرب، من خلال لجنة مقابر الحرب الألمانية، والتي يعود تأسيسها إلى عهد فايمار، وكانت مهمتها في البداية تتمثل في استعادة ودفن الجنود الذين قتلوا في معركتي فردان وإيبرس، ولكن في ثلاثينات القرن الماضي، انحرفت اللجنة عن مسارها، وكانت أهم أهدافها خلق علامات مرئية للقوة النازية في داخل ألمانيا وأمام جيرانها أيضًا، بحسب المؤرخ السويسري مارتن بوشر.

رحل هتلر وموسيليني وستالين وكل الطغاة من الباب الخلفي للتاريخ، وبقيت المقابر شاهدة على معركة العلمين إحدى أهم معارك الحرب العالمية الثانية، والتي حسمت نهايتها، تاركة ورائها ثلاث مقابر رئيسية بمدينة العلمين، مقبرة لقوات الكومنولث ومقبرتين لقتلى القوات الألمانية والإيطالية، وتضم رفات ما يقرب من 20 ألف جندي، بالإضافة إلى حوالي 50 ألف اسم جندي مفقود، فرقتهم الخلافات السياسية والأيدلوجية وجمعهم تراب المقابر بعد نزيف من الدم عانت منه أوروبا خلال القرن الماضي، أوقفه احترام الاختلاف والتعايش وتقبل الآخر.

فلسطين.. لا كرامة لميت في قبر

هَزَمَتك يا موتُ الأغاني في بلادِ الرافدينِ/ مسلَّةُ المصري، مقبرةُ الفراعنةَ/ النقوشُ على حجارةِ معبدٍ هَزَمَتك/ وانتصَرتْ وأفـْلتَ من كمائِنِكَ الخلودُ فاصنعْ بنا، واصنع بنفسِك ما تُريدُ

محمود درويش الشاعر الفلسطيني

وتبقى المقبرة تجريدًا ثقافيًّا مُعبرًا عن حياة البشر قبل الموت، يتحول فيها الإنسان إلى وثيقة تاريخية مُدونة على شاهد قبره، كجزء من ذاكرة الشعوب، تربطها بأرضها، تدافع معها عن الوجود والهوية، الوطن لا يختفي ما دامت القبور باقية.

الصراع على الأرض، لم تسلم منه قبور قطاع غزة أضرار جسيمة لحقت بها استهدفها الجيش الإسرائيلي بالقصف الجوي تارة وبالجرافات تارة أخرى، نبشها، نكل بجثثها، أخرج البقايا البشرية وتركها مكشوفة، دهسها تحت أقدامه، في انتهاك صارخ للكرامة الإنسانية، وتهديد للقيم الدينية، أنشأ الفلسطينيون أخرى حديثة عشوائية، لكي تستوعب هذا العدد المهول من الضحايا، في ظل استحالة الوصول للمقابر، فلم يكتف بقتلهم، بل لاحقهم في موتهم، وحول قبورهم إلى ثكنات عسكرية، بحجة البحث عن رُفات الأسرى الذين احتجزتهم حركة حماس.

العائلات الفلسطينية اضطرت إلى الدفن في المنازل؛ لصعوبة الوصول إلى المقابر، أو خوفًا من نبش قبور ذويهم، أبرزها مقبرة بيت لاهيا في أقصى شمال القطاع، والتي تم تجريفها وحفرها، وتدمير الأسوار المحيطة بها حتى أصبحت بلا حواجز فاصلة بينها وبين الشارع، وكذلك مقبرة بيت حانون، والتي تعتبر إحدى أقدم المقابر في غزة، تعمد الجيش الإسرائيلي تجريفها بعمق حتى أن معظم الجثث ظهرت على السطح، كما دمرت الآليات العسكرية مقبرة الفالوجا بالقرب من مخيم جباليا وحفرتها؛ لتشكل شارعين بين القبور ليتوغلوا بين العظام المتحللة كأن لا كرامة لميت في قبره.

كل ما يُعبر عن الهوية والوجود تُريد إسرائيل محوه، فالعداء للمقابر ليس وليد الحرب الدائرة حاليًا في غزة، بعد عام 1967 اعتمدت إسرائيل على سياسات هدفها منع أي ترميم أو أعمال صيانة لمئات القبور الإسلامية التاريخية في القدس، مع تحويلها إلى مقابر يهودية حديثة وأخرى جديدة لم تكن موجودة من قبل، ولم تكن تحتوي على شواهد أو بقايا عظام موتى، في محاولة منها لفرض تاريخ عبري وهمي، بحسب مؤسسة الأقصى للوقف والتراث الفلسطينية.

ويعتبر القانون الدولي الهجوم المتعمد على مقبرة يمكن أن يرقى إلى جريمة حرب، إلا في ظروف محدودة للغاية تتعلق بتحول هذا الموقع إلى هدف عسكري.

وتحتوي القدس على خمس مقابر إسلامية، هي: مقبرة مأمن الله ومقبرة باب الرحمة ومقبرة المجاهدين ومقبرة النبي داود والمقبرة اليوسفية، تواجه محاولات دائمة للنبش والهدم وإزاحتها لفرض تواجد إسرائيلي مُزيف.

 مقبرة مأمن الله والتي كانت أوسع مقابر المسلمين في القدس، تعود للقرن السابع الميلادي، تضم رفات أكثر من 70 ألف من مقاتلي جيش صلاح الدين إلى جانب العديد من العلماء المسلمين، عملت سلطات بلدية القدس، والتي تُعد أحد أدوات إسرائيل في تنفيذ المشاريع الاستيطانية والتهويدية، على طمس هوية المقبرة مُتخذة سلسلة من الإجراءات العمرانية نهشت 95 في المائة من مساحة المقبرة.

أزيلت الأبنية والشواهد وبقيت الأجساد المدفونة تحت الأرض، وتحولت إلى حديقة عامة تُسمى بـ"حديقة الاستقلال" تم تأسيسها عام 1959، يُقام فيها المهرجانات والاحتفالات اليهودية، بينما بُني على جزء آخر منها متحف أطلق عليه "متحف التسامح"، واستخدمت أجزاء في الجهة الشرقية من المقبرة لوضع حاويات النفايات فيها، وغيرها من المشروعات.

"التسامح" كان خلفه تدمير مئات القبور الإسلامية التاريخية، حينما شرعت سلطة الآثار بين عامي 2005 و2006 لوضع حجر الأساس لهذا المتحف، وهو ما اعتبره شوكي دروفان، مدير سلطة الآثار الإسرائيلية السابق، والتي تولى إدارتها حتى عام 2014، في كتابه "تحت السطح"، الصادر بعد وفاته، أنه خطأ ارتكبه نتيجة ضغوط مورست عليه وعلى سلطة الآثار من قبل شخصيات رسمية في الحكومة الإسرائيلية.

الاعتداءات والتخريب طال كل ما هو غير يهودي، تدمير أي هدف لإنشاء هوية يهودية إسرائيلية، وقمع أي نشاط للديانات الأخرى أو أي أثر لهم، منها الاعتداء على المسيحيين في المقبرة البروتستانتية في جبل صهيون والمقبرة التابعة لدير الرهبان السالزيان، وتحطيم الصُلبان وشواهد القبور التاريخية وكتابة شعارات معادية للمسيحية على جدرانها.

ويأتي هذا بُناء على سياسة ممنهجة لإزالة معالم الحضارة العربية والإسلامية خاصة بمدينة القدس، والتي خلقت بهوية قائمة على التعايش والسلام لا الصراعات الدينية والسياسية.