عمر خضر يكتب: ما فعلته المركزية بالشرمشيخيين

ذات مصر

على عكس ما يعتقد الكثيرون، لم تكن صفقة رأس الحكمة وضخ عشرات المليارات من الدولارات لإنقاذ الاقتصاد المصري خبرا مفاجئا يستدعي الدهشة لمتابعي الساحة الاقتصادية عن كثب، فالاقتصاد المصري أكبر من أن يفشل. 

ما يستدعي الدهشة إذا تأملت في الأمر، هو أن الجمهورية المصرية صاحبة التاريخ الأقدم في العالم تحتاج إلى الإنقاذ بشكل دوري، ليس فقط بسبب الاضطرابات السياسية في مطلع 2011، فالجمهورية تم إنقاذها اقتصاديا في التسعينيات والسبعينيات من القرن الماضي بقروض وإعفاءات من الديون وغيرها. المدهش أيضا أن الإنقاذ جاء هذه المرة من دولة الإمارات صغيرة المساحة وحديثة النشأة أيضا.

تستطيع أن تستمع إلى كل ما سبق في حوار دائر على مقهى أو في جلسة عائلية، متبوعا بمصمصات الشفاه ولعنات المواطن المطحون، وإلقاء تهم الفساد على كل المسؤولين. إلا أن أحدا لا يذكر ماهية المرض الحقيقي في جسد الاقتصاد المصري الذي يؤدي إلى انهيارات وشيكة دورية تصاحبها انزلاقات لملايين المواطنين تحت خط الفقر. 

وبينما تبدو المركزية مصطلح غامض نسبيا، لا تبدو أضراره جليّة، إلا أن قليلا من البحث في الأرقام والتقارير الرسمية، يشير بشكل مباشر إلى المآسي التي سببتها إدارة الاقتصاد بشكل مركزي. 

محافظة جنوب سيناء قليلة التعداد السكاني -110 ألف نسمة بحسب تقرير أعداد السكان الصادر بكانون الثاني 2020- والذي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على النفط والسياحة خير مثال على ذلك، إذ تساهم بـ 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي للجمهورية البالغ 404.1 مليار دولار بحسب بيانات البنك الدولي، أي أنه إذا تم تقسيم ما تنتجه هذه المحافظة على كل مواطن بالتساوي، فسيتجاوز نصيبه 85 ألف دولارا سنويا، وهو رقم من حيث الضخامة، يضع المواطن جنوب السيناوي، أو الشرمشيخي باعتبار شرم الشيخ أشهر مدن المحافظة، في المرتبة السادسة عالميا، تحديدا بين دولة آيسلندا، 68 ألف دولارا للمواطن، وإيرلندا، 100 ألف دولارا للمواطن. 

ولا داعي لذكر أي تفاصيل أو أرقام أخرى، فلا شك أن المواطن الشرمشيخي الذي غالبا ما تراه يرتدي جلبابا بدويا ويعمل على إرشاد السياح أو توجيههم فالجبال ورحلات السافاري، لا يبدو عليه إطلاقا أنه يحصل حتى على ربع هذا المبلغ. كما أنه لا يشبه من قريب أو بعيد المواطن الإماراتي الذي يبلغ نصيبه من الناتج المحلي الإجمالي 44 ألف دولار سنويا فقط بحسب البنك الدولي

أين تذهب الأموال؟

يعد الناتج المحلي الإجمالي رقما معبرا عن جميع الأنشطة الاقتصادية التي أضافت قيمة يمكن حسابها للاقتصاد الكلي، فتدميس الفول على سبيل المثال، هو نشاط اقتصادي يؤدي إلى زيادة القيمة، ويمكن حساب هذه القيمة عبر طرح سعر (كيلو الفول غير المدمس والطاقة المستهلكة لتدميسه) من سعر كيلو الفول المدمس. 

هذه القيمة يعاد تقسيمها على ثلاثة أطراف، وهم الأسر على هيئة مرتبات للعاملين، والحكومة على هيئة ضرائب، والشركات على هيئة أرباح. 

هذه الدورة من خلق الناتج المحلي ثم إعادة توزيعه، من المفترض أن تؤدي دائما إلى النمو، إذ إن إعادة توزيع الحكومة للضرائب التي حصلت عليها بشكل خدمات، سيؤدي إلى تسهيل الإنتاج على الشركات، كما أن الأسر التي تحصل على الأموال في صورة مرتبات إن كانوا من العاملين، أو أرباح إن كانوا من ملّاك الشركات، سيعيدون استثمار مدخراتهم على هيئة مشاريع تضيف أيضا للناتج المحلي وبالتالي يزداد عاما بعد آخر.

من ناحية أخرى، فإن عدم نمو الناتج المحلي الإجمالي، أو عدم نموه بشكل كافي، يشير إلى خطأ في هذه المنظومة أو الدورة الاقتصادية. ومن هنا يجب أن ننظر إلى كل طرف في محافظة جنوب سيناء على حدى، حتى ندرك سبب تأخر المحافظة في النمو المرجو.

 

أرباح الشرمشيخيين:

الجغرافيا تلعب دورا هامّا في فهم طبيعة الأوضاع الاقتصادية لسكان جنوب سيناء في مطلع التاريخ الحديث، فالأرض الصحراوية ذات السواحل الطويلة لم تدع للسكان سبلا للرزق سوى بعض الأنشطة الرعوية والصيد، ومن هذا المنطلق، لم يمتلك ساكنيها ثروات تمكنهم من المساهمة في المشاريع الحديثة التي ركزت عليها الدولة بعد استقلال شبه جزيرة سيناء من الاحتلال الصهيوني في منتصف السبعينيات.

لذا من غير المستغرب أن ملاك كبرى الشركات العاملة بالمحافظة ليسوا من أهلها، فاستكشافات النفط تعمل باستثمارات ضخمة للغاية، حتى أن معظمها حكومية. المنتجعات السياحية أيضا، تتطلب استثمارات كبيرة نسبيا، لم تكن بحوزة السكان في عصر نهضة المحافظة.

وبالتالي معظم الشرمشيخيين ليسوا من ملاك الشركات التي تعمل بمحافظتهم، وبالتالي لا تصل إليهم الأرباح، ولم يتبق لهم من ناتج المحافظة المحلي سوى المرتبات والنفقات الحكومية. 

مرتبات الشرمشيخيين:

يذكر دليل توصيف البيئة والتنمية الصادر عن وزارة الدولة لشئون البيئة بالتعاون مع محافظة جنوب سيناء في مطلع شباط/فبراير من العام 2005، أن المجتمعات البدوية الريفية تعيش في تجمعات صغيرة (من 5 إلى 50) أسرة، وهي بهذا أًصغر من أن تتحمل إقامة منشأة تعليمية، وبالتالي يضطر الأطفال للسفر لمسافات طويلة للوصول إلى المدارس. 

ترتب على هذا عدم انتشار التعليم بشكل كافي للمشاركة في الأنشطة الاقتصادية بالمحافظة، لا سيما عند السكان الأصليين الذين لا زالوا يتبعون نمط الحياة في مجتمعات منعزلة نسبيا. 

واستكشاف أو استخراج النفط أنشطة اقتصادية عالية التقنية، يتطلب العمل بها الحصول على حد أدنى من التعليم. لذا، مرة أخرى، من غير المستغرب أن معظم العاملين في تلك الشركات ليسوا من الشرمشيخيين. 

السياحة من ناحية أخرى، ليست على نفس درجة التعقيد التقني، لكن الحصول على وظائف مرموقة بها يتطلب إتقان بعض اللغات، وهو ما يشترط التعليم أيضا. 

نتيجة كل هذا، أن الشرمشيخيين لم يحصلوا على نصيب الأسد من الوظائف بالشركات العاملة بمحافظتهم. إذ اقتصرت أعمالهم بها على وظائف ذات أجر متدني، لذا فإن المرتبات، أي المصدر الثاني لدخل الأسر، لم يصل لهم أيضا، ولم يتبقى سوى الإنفاق الحكومي لجني ثمار ناتج المحافظة المحلي. 

الإنفاق الحكومي: 

الأرباح التي تجنيها الشركات العاملة بجنوب سيناء، ضخمة إذا ما قورنت بعدد سكان المحافظة، كما سبق أن ذكرنا، وبالتالي فإن الضرائب أيضا ضخمة نسبيا إذا ما تم إنفاقها على نفس السكان. 

لكن الواقع، أن هذه الضرائب لا تورد إلى المحافظة أصلا، بل تورد إلى الحكومة المركزية، التي تعيد إنفاقها على إجمالي سكان الجمهورية لا المحافظة. 

بالتالي أًصبح عدد السكان المتدني، نقمة لا نعمة، فالحكومة المركزية إذا أعادت تقسيم ضرائب الجمهورية لن تنفق على الشرمشيخيين أكثر مما تنفق على القاهريين أو السكندريين. وطبيعة التجمعات قليلة العدد التي ذكرت تتطلب إنفاقا أعلى حتى تحقق نفس العائد على الأقل، لا سيما أن المنطقة ككل لا زالت تحتاج إلى بنية تحتية. 

مما سبق يتبين أن الشرمشيخيين لا يصل إليهم سوى فتات ناتج الأنشطة الاقتصادية بمحافظتهم، لا عجب إذا في بقائهم على ذات الحال رغم مرور السنين.

لماذا لم تنجح الهجرة؟ 

نظريا، يمكن لمواطني محافظات الجمهورية الأخرى، أن يتجاوزوا كل تلك العقبات، فالبعض لديه فائض من الأموال للاستثمار بالشركات العاملة بالمحافظة، أو قدر كافي من التعليم للعمل بوظائف مرموقة ذات دخل عالي بالأنشطة الاقتصادية القائمة بجنوب سيناء. 

وإذا ما استقر هؤلاء بالمحافظة، يمكن إقامة تجمعات سكنية مناسبة، ومع وصول مصادر الدخل الثلاث (أرباح ومرتبات وإنفاق حكومي) ستنمو المحافظة تلقائيا، وسينضم الشرمشيخيين الأصليين لاحقا لهذا التجمعات، وتدور العجلة دون توقف. 

ورغم أن النظرية تبدو رائعة، فهي تحقق الفائدة لجميع الأطراف، كما أنها تحقق الهدف الوطني الاستراتيجي المزعم بإعادة توزيع السكان بعيدا عن وادي النيل. إلا أن تطبيقها لم يفلح لأن المصريين من مواطني المحافظات الأخرى، ببساطة لم يقدموا على الهجرة لجنوب سيناء لأنهم لم يجدوا حافزا يدفعهم إلى تلك الخطوة. 

فالمرتبات التي يحصل عليها العاملون بالسياحة لا تكفي لخلق حياة أكثر رفاهية لأسرهم من تلك التي يحصلون عليها في محافظاتهم الأصلية، إن لم تكن أقل رفاهية نظرا لارتفاع تكلفة المعيشة نسبيا لضعف البنية التحتية بالمحافظة، فالمياه على سبيل المثال لا تأتي ببساطة من النيل، بل مياه محلاة تزيد تكلفتها عن مياه النيل حتى بعد الدعم الحكومي.

نتيجة لهذا أصبحت هجرة العاملين بالسياحة بشكل رئيسي هجرة فردية لا عائلية، فالفرد المعيل يهاجر للعمل ثم يقتطع جزءا من مرتبه لإرساله لعائلته، تماما كما يفعل العديد من المصريين العاملين بدول الخليج منذ السبعينيات. 

أما العاملين بالأنشطة المتعلقة بالتنقيب واستخراج البترول، فبالتأكيد لن يستقروا بالمحافظة نظرا لطبيعة الأنشطة نفسها التي عادت ما تكون في أماكن نائية غير مأهولة بالسكان، تلزم السفر أصلا، فلماذا عناء الهجرة للمحافظة إذا كان السفر حتمي؟

هل تتأذى الجمهورية؟

قد نتساءل وبصراحة عن صحة القرار الاقتصادي إذا ما قامت الحكومة بالتضحية نسبيا بالتزاماتها تجاه المواطن الشرمشيخي الأصلي، وظل الوضع كما هو عليه بالمحافظة؟ هل تقتصر سلبيات هذا القرار على بعض المشكلات الاجتماعية من تشتت أسرة الفرد المهاجر، أو بعض المشاكل السياسية بسبب انزعاج الاهمال الأصليين من الإهمال الحكومي؟

الإجابة، قطعا لا، القرار من الناحية الاقتصادية ذاتها خاطئ.

لأن الوضع الحالي، لا يسمح سوى بتطور اقتصادي بطيء جدا للمحافظة إذا ما قورن بالتطور الممكن حال إعادة استثمار ناتجها المحلي في أفرادها وأنشطتها بشكل طبيعي، وهو ما سيساهم حتما في تحسين الوضع الاقتصادي للجمهورية ككل. 

فدولة الإمارات التي أنقذت للتو الاقتصاد المصري، لا تختلف طبيعتها الجغرافية الصحراوية كثيرا عن جنوب سيناء، كما لا تختلف أنشطتا الاقتصادية المتمثلة في استخراج البترول والسياحة عن جنوب سيناء أيضا. 

الاختلاف هنا، أن الإمارات وغيرها من الدول الشبيهة، تعيد توزيع ناتجها المحلي الإجمالي على نفسها، فالشركات العاملة مملوكة إما للحكومة الإماراتية أو لمواطني الإمارات، والمرتبات الضخمة يتلقاها أهل الإمارات، كما أن الضرائب التي تجمعها حكومة الدولة تنفق على خدمات تساهم في تطور ذات الأنشطة الاقتصادية بالدولة المدرة للربح. 

الطريق إلى الخلاص:

مما سبق نستطيع أن نرى بوضوح ما أدّى إليه إدارة الاقتصاد بشكل مركزي، إذ إن عدم إعادة توزيع ما تجنيه منطقة اقتصادية مهمة كمحافظة جنوب سيناء على سكانها الأصليين وأنشطتها الاقتصادية، أدى إلى تعثر النمو بشكل مطرد يصل بها إلى ذات حال مناطق اقتصادية أو دول أخرى لها ذات الطبيعة.

من ناحية أخرى، وبعيدا عن الأوهام، لا تستطيع الجمهورية بمحافظاتها الأخرى، كثيفة السكان، التخلي ببساطة عن كل ما تجنيه المناطق الاقتصادية المختلفة من أرباح. مما يضع صانع القرار في معضلة. 

لكنها تستطيع إنفاق جزء على الأقل من هذه الأرباح في صالح المواطن الجنوب سيناوي نفسه، لخلق ميزة نسبية لسكان المحافظة مما يحفز المصريين على الهجرة الداخلية إليها، إذا قامت الحكومة مثلا باستثمارات تكفي لجعل التعليم الحكومي المجاني بالمحافظة لا يستدعي الذهاب إلى الدروس الخصوصية، مما سيوفر 12.5% من دخل الأسرة، وهي نسبة ما ينفقه سكان المدن على الدروس الخصوصية بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فربما يعيد العامل التفكير بالهجرة، خاصة إذا لم تكن هذه الميزة الوحيدة، فهناك أيضا الصحة والنوادي الترفيهية وغيرها.

هذه الأسر التي ستهاجر إلى المحافظة سيخلق أفرادها نشاطات اقتصادية أخرى تتلاءم مع السياحة، ربما يصنعون بأنفسهم تلك المنسوجات والتماثيل التي تباع بسوق شرم الشيخ القديم بدلا من استيرادها من الصين مثلا مما يضيف إلى الناتج المحلي للمحافظة خصوصا وللجمهورية عموما.

وهنا تظهر ضرورة الإدارة اللامركزية، إذ تصبح محافظة جنوب سيناء، أو غيرها من المناطق الاقتصادية المهمة بالجمهورية، كيان اعتباري شبه مستقل يعبر عنه سكانه الأصليين، ويدفع من ناحيته إلى استغلال أكبر قدر ممكن مما ينتجه، بأفضل شكل ممكن بالنسبة إلى مواطنيه، وهو حتما ما سيؤدي إلى نتيجة أفضل من قرارات تصدرها كيانات لم يغادر كبار موظفيها مكاتبهم بالقاهرة!