حركة الخدمة التركية.. وفكر المؤسس فتح الله جولن

ذات مصر

عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من يوليو 2016، أصدرت الحكومة التركية قرارات إغلاق طالت أكثر من ألف مدرسة في مختلف المراحل بالإضافة إلى خمس عشرة جامعة، ومئة وتسعة نُزل طلاب؛ بسبب تبعيتها لحركة الخدمة التي يقودها الداعية فتح الله جولن المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية منذ ربع قرن.. حيث أشارت أصابع الاتهام إليه في الانقلاب على الرئيس رجب طيب أردوغان.

نهاية شهر العسل

ما يمكن تسميته بنهاية شهر العسل بين أردوغان وحركة الخدمة بزعامة جولن- كان قد بدأ أواخر 2013، عندما كان أردوغان رئيسا للوزراء، حين اتهمت حركة جولَن بالعمل من خلال مؤسسات الشرطة والقضاء على إصدار أوامر بضبط وتفتيش أبناء وزراء ومسئولين في حزب العدالة والتنمية الحاكم، كادت تطول أردوغان وأفراد عائلته قبل أن يصدر أمر بوقفها ونقل المشاركين فيها من أماكنهم ووقف آخرين عن العمل.. وقد اعتبر تلك الإجراءات بمثابة محاولة انقلاب عليه دبرتها الحركة.

انطلقت حركة الخدمة -ذات التوجه الإسلامي- في تركيا منذ أكثر من نصف قرن، واستطاعت خلال تلك الفترة تحقيق انتشار واسع من خلال مؤسساتها التعليمية والإعلامية في تركيا وخارجها في قارات العالم الست، في مئة وعشرين دولة.. وخلال تلك الفترة توغّل أعضاء الحركة داخل الجهاز البيروقراطي للدولة التركية إذ "خلقوا ما يُعَدّ - فعليًا- دولة داخل الدولة التركية، ورسّخوا وجودهم بقوة في الشرطة والقضاء والعديد من مؤسسات الدولة".

امتلكت الحركة وجها آخر تعاملت به في أوج قوتها مع أعدائها والمنقلبين عليها، وأشهر هؤلاء أحد كبار القادة في الشرطة التركية كان مقربا من الحركة؛ لكنه كتب مُؤَلَّفَا عن أنشطة الحركة.. وانتهى به الأمر إلى السجن بعد اتهامه بالتعاون مع جماعات اليسار المتشدد التي أمضى قسما كبيرا من حياته المهنية في ملاحقة أفرادها.

جولن.. المسلم النموذجي

جولن الذي "يُقَدّم من طرف الأحزاب البرجوازية المحافظة بوصفه "مسلما نموذجيا" يطرح خلاصة تؤالف بين القيم الإسلامية، ومبدأ الفصل بين الدين والدولة الذي تقره الكمالية" لكن هذه الصورة التي حاول جولن تصديرها لأجهزة الدولة التركية، كانت قد اهتزت بقوة في 18يونيو من العام 1999، عندما تحدّث في التلفزيون التركي، وقال كلاما اعتبره البعض انتقادا ضمنيا لمؤسسات الدولة التركية. 

وبعد ذلك بدأ المدعي العام للدولة تحقيقا في تصريحات جولن وساعتها تدخَّل رئيس الوزراء التركي آنذاك بولنت أجاويد، ودعا الدولة إلى معالجة الأمر بهدوء، بدلا من فتح الموضوع للنقاش على المحطات التلفزيونية التركية، كما دافع عن جولن وعن مؤسساته التعليمية، بعد ذلك اعتذر جولن علانية عن تصريحاته، إلا أن بعض العلمانيين ظلوا متشككين في أهدافه، ولاحقا وُجِّهت له اتهامات بمحاولة تحقيق مكاسب سياسية على حساب مؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش.

بعد تلك الأزمة حدثت أزمة لقطة الفيديو الشهيرة، التي بثت على اليوتيوب، وظهر فيها جولن، وهو يقول لعدد من أنصاره، أنه سيتحرك ببطء من أجل تغيير طبيعة النظام التركي من نظام علماني إلى نظام إسلامي، كما تحدّث عن نشر الثقافة التركية في أوزبكستان، ما أثار موجة غضب في الجيش التركي وباقي المؤسسات العلمانية في البلاد، وأدى إلى أزمة دبلوماسية بين تركيا وأوزبكستان، دفعت بولنت أجاويد للتدخل مجددا في محاولة لحلها؛ لكن أوزبكستان قررت إغلاق عدد من المدارس التابعة لحركة الخدمة.

ويبدو أنَّه خلال هذا الوقت كانت المؤسسة العلمانية في تركيا قد بدأت هي الأخرى تستشعر قلقا متزايدا من جولن ومؤسساته التعليمية، فأصدرت هيئة التعليم العالي في تركيا قرارا يقضي بعدم الاعتراف بالشهادات العلمية التي تمنحها مدارس جولن لخريجيها؛ لكن هذا القرار كان مؤقتا.

النفي إلى الولايات المتحدة

في نهاية الأمر صار جولن منفيا في الولايات المتحدة دون أسباب معلنة من قِبَل الدولة، أما السبب الذي يعلنه هو أنه في رحلة علاج يعلم الله وحده متى تنتهي؟! ومع ذلك فقد استطاع أتباع الرجل إنشاء أكثر من 100 مدرسة تابعة للحركة في الولايات المتحدة منذ بداية الألفية الجديدة.

وتلقى الحركة ونهجها ترحيبا كبيرا في الغرب؛ إذ تُعتبر هي النموذج الذي ينبغي أن يحتذى به بسبب انفتاحها على العالم، وخطابها الفكري "إذ يرى جولن أن أميركا والغرب عموما قوى عالمية لابد من التعاون معها، في الوقت ذاته لا ينظر جولن إلى العالم العربي وإيران بوصفهما المجال الحيوي لتركيا، بل يعتبر القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى والبلقان- المجال الحيوي لتركيا، فهذه البلدان تضم أقليات تركية هامة، وهو يرى أنه إذا كان لتركيا يوما ما أن تعود لمكانتها بوصفها واحدة من أهم دول العالم، كما كانت خلال فترة حكم الدولة العثمانية، فلابد من نفوذ قوي لها وسط الأتراك في كل مكان في العالم - حوالي 400مليون حسب بعض التقديرات. 

لكن جولن من البراجماتية والذكاء بحيث لا يستخدم تعبير "القيادة التركية" في المنطقة، كما لا يدعو إلى استقلال الأقليات التركية في وسط آسيا، ولا تمارس جماعته أنشطة تعليمية في البلاد التي يمكن أن تتعرض فيها الأقلية التركية لمشاكل من قبل النظم الحاكمة مثل الصين وروسيا واليونان. 

ومما لا يجب غض الطرف عنه رؤية جولن، حول تطبيق الشريعة الإسلامية في تركيا إذ يرى "أن الغالبية العظمى من قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس، فيما الأقلية منها تتعلق بإدارة الدولة وشئونها، وأنَّه لا داعي لتطبيق أحكام الشريعة في الشأن العام". ووفقا لهذا يعتقد جولن أن الديمقراطية هي أفضل حل، ولهذا فهو يُكِنُّ عداءً شديدًا للأنظمة الشمولية في العالم الإسلامي.

معركة الإسلام والحداثة

وما بين هذه الرؤية وتقليدية الخطاب الديني في جوانب عديدة لدي جولن تتضح كثيرا من أبجديات الفكر لدى حركة الخدمة، فكما يبدو أنَّ "إحدى مميزات خطاب جولَن تتمثل في تعدد مدلولات مقولاته والصياغات المتنوعة لأفكاره بحسب المتلقي، وفي هذا المضمار فإن إضافته لا تكمن في تأويل جديد للقرآن، بل في ملاءمة تركيب جديد لعناصر مختلفة متفق عليها عموما بهدف صياغة مقولات جديدة. 

وتتمثل الخطوط العريضة لخطابه في أن الإسلام لا يجب أن يكون في مواجهة مع الحداثة، إذ أن الدولة العلمانية الحديثة تعد خصما قويا لا يحسن الصدام معه، وهو في ذلك يرجع إلى فرضية أستاذه بديع الزمان سعيد النورسي "أن الله يحاكم الفرد عن حياته الخاصة. وعليه فإن كل حركة تجديد إسلامية مطالبة بالتركيز على إرشاد الأفراد، وينبغي القبول بالنظام الحكومي بوصفه إطارا منظما للسلوكيات الفردية، كيما يتفرغ الإنسان إلى مهمات أكثر أهمية". 

كما يضيف جولن "أن الإنسان يعيش حاليًا في عصر العلوم الطبيعية والتكنولوجيا التي ليس هناك من بديل عنها. وبالتالي فإما أن يساهم المرء في صياغة العصر بطريقة دينية أو أنه سيخسر كل مقدرة على التدخل البناء، كما أن المتذمرين لم يصنعوا تاريخا أبدا".

بذلك يضع جولن نفسه في موقف المناهض لطرق التدخل الثورية، وبديلا عن الانسحاب من المجتمع العلماني، ويطرح مسألة الانخراط الفعَّال في المجتمع (ومن ذلك المساهمة في إعادة تنظيمه في الآن نفسه).

وفي إطار مرونة الأفكار التي يتميز بها السيد جولن استطاع الرجل أن يستبدل قناعاته حول القومية والإسلام "إذ ينظر جولَن وأتباعه إلى عالم الدول القومية كأمر واقع مثله مثل العولمة. وهم لا يعتقدون اليوم بأنه بالإمكان الحفاظ على الهوية الإسلامية الخاصة عن طريق الانغلاق عن العالم. 

كما يعتبر جولَن أن رؤيته الخاصة قادرة على فرض نفسها، ويدافع تبعا لذلك عن مبدأ الحدود المفتوحة؛ كي يعاد الاعتبار إلى الإسلام. وعلى المرء في رأيه أن يتعامل مع العولمة كإمكانية يجب توظيفها، لأنه لا يمكن التصدي لها ومقاومتها".

فزاعة جولن

وفي كلمته الأربعاء الماضي خلال اجتماع المجموعة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية- اتهم أردوغان حركة الخدمة بتدبير محاولة انقلاب جديدة للإطاحة بحكومته، مضيفًا: “من يريد تقويض روح (يني كابي) - التجمع الحاشد بميدان يني كابي في إسطنبول بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016- من أجل سداد الديون لتنظيم فتح الله جولَن لا يقف مكتوف الأيدي، نحن نعرف جيدا الدمية ومن يحركها ومن كتب المسرحية، ومهما أصبح الأمر قبيحا فلن نقع في هذا الفخ".

ويبدو أن أردوغان ما زال مُصِرا على استخدام الحركة كفزاعة لاتخاذ مزيد من الإجراءات في مواجهة خصومه السياسيين؛ في الوقت نفسه مازالت الحركة قوة لا يُستهان بها في المجتمع التركي؛ لكنها تتبع الآن استراتيجية مغايرة في التعامل مع نظام أردوغان؛ لا تعتمد المواجهة المباشرة.. ولكنها تضرب في عدد من النقاط التي تعتبرها بمثابة نقاط ضعف النظام الحالي.