الدكتور عمرو عبدالرازق تعلب يكتب: النصوص الكارثية في مشروع قانون الإجراءات الجنائية

ذات مصر

هذا المقال يا سادة عن أخطر القوانين المكملة للدستور - قانون الإجراءات الجنائية- فهو من أخطر التشريعات التي تنظم الحقوق والحريات الدستورية للمواطنين ،وهو الدستور الثاني ،واللائحة التنفيذية لقانون العقوبات. 

هذا القانون الحالي قانون الإجراءات الجنائية البالغ عمره ما يناهز على أربعة وسبعين عاما وما حواه من نصوص أصبح كهلًا لا يناسب تطلعات جمهورياتنا الشابة الجديدة وما استجده واستحدثه العصر الحديث لخدمة منظومة العدالة والارتقاء بها كما يجب أن تكون رغم ما طرأت عليه من تعديلات لهذا فزعت الحكومة لتعديله ـ كاستحقاق دستوري  ـ هذا وإن كان واقع مشروع قانون الإجراءات الجنائية الذي تقدمت به الحكومة للجنة الفرعية للجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب يعلن في وضوح تام بأننا أمام مشروع لقانون مستحدث لا معدل انطوت نصوصه على مخالفات دستورية سافرة ،وتقنين لممارسات غير مشروعة في إطار نصوص استغرقها العوار الدستوري ،من شأنها تجريد المواطن والمتهم والدفاع من حقوقهم التي خولها لهم الدستور وكفلها بنصوصه.

إن مشروع قانون الإجراءات الجنائية وغيره من التشريعات ليس بكتاب مقدس لكي يعد نقده جريمة ،فهو كغيره من أعمال البشر يرد عليه النقص والخطأ ويأخذ منه ويرد عليه ،وما كان هذا النقد إلا لتهذيبه تشريعيا وفق ما قصدته إرادة الشعب بالدستور.

 أحدث مشروع قانون الإجراءات الجنائية كارثة بنص المادة رقم ( 47 ) حيث نصت على أن:"... لرجال السلطة العامة دخول المنازل وغيرها من المحال المسكونة في حالات الخطر والاستغاثة." وهو ما يعني انتهاكه لحرمه المنازل حينما أجاز مداهمة واقتحام المنازل بدون أمر قضائي مسبق ومسبب من قبل أُناس أسماهم رجال السلطة العامة فمن هم رجال السلطة العامة ؟!!! متعللا بالخطر والاستغاثة في الوقت الذي أضفى فيه الدستور حرمة للمنازل  بموجب نص المادة رقم ( 58 ) حيث نصت على أن:" للمنازل حرمة، وفيما عدا حالات الخطر، أو الاستغاثة لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائي مسبب، يحدد المكان، والتوقيت، والغرض منه، وذلك كله في الأحوال المبينة في القانون، وبالكيفية التي ينص عليها، ويجب تنبيه من في المنازل عند دخولها أو تفتيشها، واطلاعهم على الأمر الصادر في هذا الشأن.

وامتدادًا للتوسعات السافرة لاختصاصات مأموري الضبط القضائي فقد نص مشروع قانون الإجراءات الجنائية في المادة رقم (39) على أنه:" اذا لم يكن المتهم حاضرا في الأحوال المبينة في المادة رقم (38)– يقصد حالة التلبس- من هذا القانون جاز لمأمور الضبط القضائي أن يصدر أمراً بضبطه وإحضاره ويثبت ذلك في المحضر." وهو ما يعني منح مأموري الضبط القضائي سلطة إصدار الأوامر القضائية التي هي من اختصاص النيابة العامة بالمخالفة للدستور. فهل يمنح مأمور الضبط القضائي نفسه أمرًا بضبط وإحضار المتهم أم ماذا؟!!! في كل الأحوال شاب هذا النص عوارًا دستوريًا لمخالفته نص المادة رقم (54) من الدستور حيث نصت على أن: "الحرية الشخصية حق طبيعي، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق".

 كما تمخضت عن ذات المشروع كارثة نصية أخرى بنص المادة رقم ( 63 ) حيث نصت على أن :" يجوز تكليف احد معاون النيابة العامة لتحقيق قضيه بأكملها كما يجوز لعضو النيابة العامة من درجه مساعد نيابة عامه على الأقل أن يندب أحد مأموري الضبط القضائي للقيام بعمل معين أو اكثر من أعمال التحقيق عدا استجواب المتهم ." فقد دمج بين سلطة النيابة وسلطة مأمور الضبط القضائي ؛مجيزًا لمأمور الضبط القضائي القيام بأعمال التحقيق واستجواب المتهم - وهو اختصاص أصيل للنيابة العامة- بما يتعارض مع وظيفته باعتباره أحد رجال السلطة التنفيذية فحسب ،وهو ما لا يجوز قانونا أيا كانت المبررات التي ساقها النص. ثم أتى هذا النص بفقرته الثانية ليناقض نفسه بنص قوله:" ويكون لمأمور الضبط القضائي المندوب في حدود ندبه كل السلطات المخولة لمن ندبه وله أن يجري أي عمل آخر من أعمال التحقيق وأن يستجوب المتهم في الأحوال التي يخشى فيها فوات الوقت متى كان متصلا بالعمل المندوب له ولازما في كشف الحقيقة." فبعد ما حظر على مأمور الضبط القضائي القيام بإجراء استجواب المتهم في الفقرة الأولى قفز سريعًا في الفقرة الثانية من النص ذاته مجيزاً له القيام به.

والسؤال يطرح نفسه من ينطبق عليهم وصف مأموري الضبط القضائي؟ أجاب على هذا التساؤل نص  المادة رقم (23) من قانون العقوبات حيث نصت على أنه:" يكون من مأموري الضبط القضائي في دوائر اختصاصهم، أعضاء النيابة العامة، ومعاونوها، وضباط الشرطة، وأمناؤها، والكونستبلات، والمساعدون، ورؤساء نقط الشرطة، والعمد ومشايخ البلاد ومشايخ الخفراء، ونظار ووكلاء محطات السكك الحديدية الحكومية، ولمديري أمن المحافظات ومفتشي مصلحة التفتيش العام بوزارة الداخلية، أن يؤدوا الأعمال التي يقوم بها مأموري الضبط القضائي في دوائر اختصاصهم».

وأضافت: «ويكون من مأموري الضبط القضائي في جميع أنحاء الجمهورية، مديرو وضباط إدارة المباحث العامة بوزارة الداخلية وفروعها بمديريات الأمن، ومديرو الإدارات والأقسام ورؤساء المكاتب والمفتشون والضباط وأمناء الشرطة والكونستبلات والمساعدون وباحثات الشرطة العاملون بمصلحة الأمن العام وفى شعب البحث الجنائي بمديريات الأمن، وضباط مصلحة السجون، ومديرو الإدارة العامة لشرطة السكة الحديد والنقل والمواصلات وضباط هذه الإدارة، وقائد وضباط أساس هجانة الشرطة، ومفتشو وزارة السياحة، ويجوز بقرار من وزير العدل، بالاتفاق مع الوزير المختص تخويل بعض الموظفين صفة مأموري الضبط القضائي، بالنسبة إلى الجرائم التي تقع في دوائر اختصاصهم وتكون متعلقة بأعمال وظائفهم». وتأسيسا على النصين السابقين فإن مشروع قانون الإجراءات الجنائية أجاز لكل هؤلاء القيام بأي إجراء من إجراءات التحقيق واستجواب المتهم ،فهل يصلح كل هؤلاء مع اختلاف مؤهلاتهم أو عدمها في القيام باختصاصات النيابة العامة بإجراء التحقيق  أو الاستجواب؟!!!

كما انطوت نصوص مشروع قانون الإجراءات الجنائية على كارثة أشد في أثرها وتأثيرها حينما صادر على الدفاع حقه في الكلام دفاعًا عن موكله معلقًا حصوله على إذن عضو النيابة العامة له بالكلام حيث ذكر بنص المادة رقم (72) بأسلوب غاية في الركاكة بنص قوله:"..... لا يجوز لوكيل الخصم الكلام إلا إذا أذن له وكيل النيابة العامة،.. " أي إخلال هذا بحق الدفاع أتى به هذا النص؟!!! رُغم أن المحامين شركاء القضاة في تحقيق العدالة وهو ما استتبع بالضرورة حرمان المتهم من محاكمته محاكمة عادلة مستعينًا بدفاع أخرسته النيابة العامة وأسكتته كلما عَنّ لها ذلك. كما ناقض هذا النص نص المادة رقم (105) في عجزها من المشروع ذاته حيث نصت على أنه:" وفي جميع الأحوال لا يجوز الفصل بين المتهم ومحاميه الحاضر معه أثناء التحقيق." ألا يعد إسكات دفاع المتهم في أثناء التحقيق فصلاً للمتهم عن دفاعه؟!!!

وإضافة إلى الإخلال الجسيم بحق الدفاع في هذا النص فقد أضاف إخلالا آخر ومزدوجًا بحق الدفاع أكثر جسامة حينما قنن مشروع قانون الإجراءات الجنائية إهداره  بموجب نص المادة رقم (334) إذ نص على أن:" يسقط الحق في الدفع ببطلان الإجراءات الخاصة بجمع الاستدلالات أو التحقيق الابتدائي أو التحقيق بالجلسة في الجنح والجنايات اذا كان للمتهم محام وحصل الإجراء بحضوره بدون اعتراض منه." فكيف لمحامي المتهم الاعتراض على أيٍ من الإجراءات التي أوردها النص بطريق الدفع بالبطلان وقد حرمته النيابة العامة من حقه بالدفاع بعدم السماح له بالكلام إلا إذا أذنت له بذلك ،فهل يعترض بالإشارة أم بماذا؟!!!، ومن هذا المنطلق فإن حضور المحامي للدفاع عن موكله ليست في مصلحة الأخير حتى لا يسقط حقه في الدفع ببطلان الإجراءات طالما أن محاميه كان حاضرًا ولم يبدى اعتراضًا هو لا يملك إبداؤه بالأساس لأن النيابة العامة لم تأذن له. 

كما أضاف نص المادة رقم (368) كارثة أخرى على سابقاتها حينما جعل من الحكم الغيابي حكمًا واجب النفاذ رغم كونه حكماً تهديديًا فحسب فالأحكام واجبة النفاذ هي الأحكام النهائية أو الباتة دون غيرها ،وهو ما يعني أنه وضع الحكم الغيابي موضع الحكم النهائي بالإدانة ،وهو ما يمثل تعدياً سافراً على أصل البراءة في الإنسان إذا أن البراءة أَصلٌ قَائمٌ بذاته. محقق وجوده قبُلا. فلا ينهدم إِلا بحُكم قضائي بات؛ ومن ثمّ فهو لا يحتاج إلى قضاء ليوجده بل ليؤكد ديموُمَتِه أو زَوَاله.

 فنص في غير دستورية على أن: "كل حكم يصدر بالإدانة في غيبه المتهم يستلزم حتما حرمانه من أن يتصرف في أمواله أو أن يديرها أو أن يرفع أي دعوى باسمه وكل تصرف أو التزام يتعهد به المحكوم عليه يكون باطلا من نفسه." رغم أن الدستور قد صانها بنص المادة رقم (35) حيث نص على أن:" الملكية الخاصة مصونة، وحق الإرث فيها مكفول، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون، وبحكم قضائي، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل يدفع مقدمًا وفقا للقانون." 

وتتوالى النصوص الكارثية في مشروع قانون الإجراءات الجنائية حينما أهدر نص المادة رقم (69) ضمانة هامة كفلها الدستور وهي أنه لا يجوز إجراء النيابة العامة لأي من إجراءات الحقيق في غيبة المتهم أو محاكمته دون حضور محام موكل عنه أو منتدب للدفاع عنه فأجاز للنيابة العامة إجراء التحقيق في غيبة المتهم حيث نص على أنه: “يجوز للمتهم والمجني عليه والمدعي عليه بالحقوق المدنية والمسئول عنها ووكلائهم أن يحضروا جميع إجراءات التحقيق، ويجوز لعضو النيابة العامة أن يجري التحقيق في غيبتهم متى رأى ضرورة ذلك لإظهار الحقيقة، وفور انتهاء من تلك الضرورة يمكنهم الاطلاع على التحقيق، وله في حالة الاستعجال أن يباشر بعض إجراءات التحقيق في غيبة الخصوم، ولهؤلاء الحق في الاطلاع على الأوراق المثبتة لهذه الإجراءات. ويحق للخصوم اصطحاب وكلائهم في التحقيق”...هل يصطحب الوكلاء وكلائهم ؟ لا أعتقد أنها رحلة للتنزه حتى يصطحب الخصوم وكلائهم وكأنهم أطفال !!!!اعتقد أيضا أن عجز هذه المادة يحتاج إلى إعادة صياغة ،ومن ثم فقد شاب النص السابق شائبة عدم الدستورية لمخالفته ما تضمنته عجز نص المادة رقم (54) من الدستور الحالي من ضمانات ،والتي نصت على أنه:" وفى جميع الأحوال لا يجوز محاكمة المتهم في الجرائم التي يجوز الحبس فيها إلا بحضور محام موكل أو مٌنتدب".

كما أزاد مشروع قانون الإجراءات الجنائية في نصوصه الكارثية حينما حرم الدفاع من الاطلاع على التحقيق أو الحصول على صور ضوئية منه متعللا بمصلحة التحقيق وإذا كان التحقيق يعد ضمانة للمتهم فكيف لمحاميه الدفاع عنه دون اطلاعه على التحقيق أو الحصول على صور ضوئية منه ،وهو ما يمثل في نظرنا إخلالاً شديد الجسامة بحق الدفاع غُلِّبت فيه مصلحة التحقيق على مصلحة المتهم حيث نص في المادة رقم (73) على أنه:" يجوز للمتهم وللمجني عليه وللمدعي بالحقوق المدنية وللمسئول عنها ولوكلائهم ان يحصلوا على نفقتهم أثناء التحقيق على صور من الأوراق أيا كان نوعها إلا إذا اقتضت مصلحه التحقيق غير ذلك." 

مكرراً إخلاله بحق الدفاع بنص المادة رقم (105) حيث نصت على أنه :"يجب أن يُمكن محامي المتهم من الاطلاع على التحقيق قبل الاستجواب أو المواجهة بيوم على الأقل ما لم يقرر عضو النيابة العامة غير ذلك. " فمنع المحامي من الحصول على صوره ضوئية من أوراق التحقيق هي كارثه بكل المقاييس وإخلالا جسيما  بل واشد جسامه بحق الدفاع لا يأتي إلا على حساب المتهم.

دخل مدافعا خرج متهما !!! كما أحط نص المادة رقم (242) من شأن القضاء الواقف -المحامي-حينما  قرر إحالته إلى النيابة العامة بمحضر يحرره ضده  رئيس الجلسة إذا ما ارتأت هيئة المحكمة أن ما صدر عنه يعد تشويشا يخل بالنظام العام ويستدعى مؤاخذته تأديبيًا حيث نص على أنه:" ما عدا الإخلال بحالة التلبس وبمراعاة أحكام قانون المحاماة إذا وقع من المحامي أثناء قيامه بواجبه في الجلسة وبسببه ما يجوز اعتباره تشويشاً مخلاً بالنظام أو ما يستدعى مؤاخذته تأديبيا يحرر رئيس الجلسة محضراً بما حدث وللمحكمة أن تقرر إحالة المحامي إلى النيابة العامة لإجراء التحقيق إذا كان ما وقع منه ما يستدعي مؤاخذته جنائياً وإلى رئيس المحكمة إذا كان ما وقع منه يستدعى مؤاخذته تأديبياً."

فكلمه التشويش هنا التي أتى بها هذا النص أشبه بكلمات النصوص التأديبية في مجال الوظيفة العامة حيث إن تلك النصوص في هذا المجال تتسم بكونها نصوص واسعة وفضفاضة بكلمات وألفاظ مطاطة تتسع لأكثر من تأويل لكون ما يصدر عن الموظف العام من تصرفات أو سلوكيات مخالفة للقاعدة القانونية يصعب حصرها في نصوص ،وهذا يتعارض بالطبع مع صفات القاعدة القانونية الجنائية سواء كانت بقانون العقوبات أو بقانون الإجراءات الجنائية لأن من صفات النص الجنائي أن يكون نصاً واضحاً ومحدداً ومعين لا لبس فيه ولا غموض ولا يحتمل أكثر من تأويل بل له تأويل واحد واضح وصريح. وهو ما قد يقذف بالرعب في صدر محامي المتهم مهددا إياه بوضع طوقا حول عنقه وقيدا حول يديه مما يعقد معه لسانه بالدفاع عن موكله خشية قيد وتوصيف ما يصدر عنه في أثناء صولاته وجولاته مع هيئة المحكمة دفاعاً عن موكله بالتشويش، وهو ما لا يليق شكلًا ومضوناً بنصوص قانون ينظم حق الدفاع والتقاضي لتحقيق عدالة ناجزة.

تلك النصوص الكارثية التي ذكرت وغيرها والتي لا يتسع المقام لحصرها لا تليق مطلقا بما يجب أن تكون عليه منظومة العدالة في مصر أو يكون عليه تشريعاَ مصرياَ لطالما بُحت لأجل تعديله الأصوات ونفدت من أجله أحبار الكثير من أقلام الفقه وجميع الأطياف المعنية بالعدالة لمنع تجاوزات السلطة التنفيذية للنص أو تحايل الدفاع عليه ،ولتذليل العقبات الإجرائية التي تعترض أطراف الدعوى العمومية ،ولتوفير المناخ التشريعي اللازم والملائم لتمكين الدفاع والقاضي من أداء مهامهم كل في حدود اختصاصه ومن دون تغوّل سلطة على غيرها. ومن ثم تعين على مشرعنا المصري النابه أن ينتبه لمثل هذه المخالفات الدستورية الجسيمة.

العيب في الفلسفة التي قام عليها مشروع قانون الإجراءات لأنها تخل  بالتوازن المفترض أن يكون عليه أطراف الدعوى الجنائية ،كما أن النصوص التي تشوبها شائبة عدم الدستورية والموصومة بالعوار الدستوري من شأنها إحداث أزمات لسير العدالة عامة وإرباك للدعوى الجنائية إجرائياً خاصة، الأمر الذي يجدر معه بالمشرع أن يراعي مثل هذا التناقض ،والذي من شأنه إفراغ النصوص من مضامينها وما تحمله من ضمانات سنت من أجلها تلك النصوص ولأجل توفيرها على ارض الواقع عمليا. فضبط النصوص وصياغتها لابد وأن تكون على هدي مقاصد الدستور بما يحقق غاياته وأهدافه. فالعبرة دائما بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني ،وأن الأزمة الحقيقية ليست في النصوص التشريعية على قدر ما تكون أزمة تطبيقها وتفعيلها وعدم تجاوزها لمصلحة على حساب أخرى.

 فالنصوص القانونية التي ينظم بها المشرع موضوعا محدداً لا يجوز أن تنفصل عن أهدافها، ذلك أن كل تنظيم تشريعي لا يصدر عن فراغ، ولا يعتبر مقصودا لذاته، بل مرماه إنفاذ أغراض بعينها يتوخاها، وتعكس مشروعيتها إطاراً للمصلحة العامة التي أقام المشرع عليها هذا التنظيم باعتباره أداة تحقيقها، وطريق الوصول إليها.

 لكن ما يطمئن قليلا أنها ليست المرحلة الأخيرة ولا النهائية لقانون الإجراءات الجنائية فهو في الوقت الحالي لا زال محض مشروع مطروح على لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب أملاً أن يأخذ المجلس تلك الدراسة النقدية بعين الاعتبار إعلاءً لمصلحة منظومة العدالة بمختلف أطرافها، وتوفير المناخ التشريعي الملائم للممارسة حق التقاضي والدفاع وقيام أعضاء السلطة القضائية والتنفيذية برسالتيهما على نحوٍ مرضٍ لجميع أطراف الدعوى الجنائية ،ونظراً لخطورة هذا التشريع وما حواه من موضوعات تمس جميع المواطنين كنت آمل أن يحشد له الطاقات البشرية من آلاف الخبراء والمتخصصين من رجال القانون ،والمهتمين بحقوق الإنسان والمجتمع بكل أطيافه حتى يصل المشرع ونصل معه إلى منتج تشريعي قانوني عالي الجودة ينال احترام وهيبة كل المخاطبين به. 

و في النهاية نحن جميعا محاكمون أمام الله وأمام الأجيال اللاحقة والتاريخ، وإن أخشي ما أخشاه من أن يأتي يوماً يُقال فيه لعن الله من وضع هذا القانون ومن عاونه ومن نفذه بل ومن سكت عنه...وللحديث بقية دمتم في أمان الله.