عبد الخالق فاروق يكتب: الأخطاء الشائعة في العقل التحليلي في البرامج الحوارية العربية

ذات مصر

خلال الثلاثين عاما الأخيرة برز إلى سطح الحياة السياسية والإعلامية العربية القنوات التليفزيونية المتنوعة  والقنوات الفضائية ، والتي وسعت من الفضاء الإعلامي بكافة أنواعه : السياسي منها وغير السياسي  ، والتي زاد عددها وفقا لبعض الإحصائيات عن ثلاثة  آلاف قناة ناطقة باللغة العربية ، بعضها يملكها دول وحكومات ، وبعضها الثاني يملكها رجال مال وأعمال ، وبعضها الثالث يملكها جمعيات دينية ، أو شركات إعلانية ، ومن بين كل هؤلاء تختفي في بعضها أجهزة استخبارات عربية وغير عربية ، وتمول بعضها الآخر أموال مشبوهة ، أو أموال مقبولة وفقا لما يتوقف عليه زوايا النظر للمشاهدين والمتابعين والمراقبين . 

ووسط هذه الغابة الكثيفة ظهرت البرامج الحوارية Talk Shows  بكافة أنواعها : الاجتماعي منها  أو السياسي ، والفني منها أو الترفيهي ، والطبي منها أو الشعوذي ، وأخيرا البرامج الدينية بصرف النظر عن المضمون الذي تقدمه للمشاهدين العرب والمسلمين . 

والحقيقة أن متابعة وتحليل كل ما يعرض في هذه القنوات والبرامج يحتاج إلى فرق عمل متخصصة وهائلة من حيث العدد والعدة ، ومن هنا فسوف يقتصر تناولنا على البرامج الحوارية ذات الطبيعة السياسية والثقافية ، والتي لعبت أدوارا هامة في مسرح الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية ، بل وأحيانا ساهمت في صياغة بعض السياسات العامة وبعض القرارات الحكومية في هذا البلد العربى أو ذاك . 

وخلال هذه السنوات الطويلة ،  بقدر ما تابعت وشاركت في الكثير من هذه البرامج ، ومن خلال عدد ليس بقليل من هذه القنوات التليفزيونية والفضائية المصرية والعربية ، بقدر ما لفت نظري انتشار وتفشي الكثير من الأخطاء الشائعة في تلك البرامج الحوارية ، خصوصا تلك التي يكون  من بين ضيوفها من يطلق عليهم المحللون الاستراتيجيون ، سواء كانوا من العسكريين أو المدنيين . 

دعونا نتأمل أهم وأبرز تلك الأخطاء الشائعة من جانب كثير من هؤلاء المحللين ، دون أن نهمل جدارة البعض منهم في القدرة التحليلية ،  سواء في تحليل عناصر الحاضر ، أوالمقدرة على استشراف أفق المستقبل . 

نستطيع أن نشير إلى ستة أخطاء فادحة وشائعة في لغة الخطاب في كثير من بعض تلك البرامج وهي : 

أولا : إسقاط الباحث أو " المحلل " أمنياته الشخصية ورغباته الدفينة على وقائع ومعطيات الحدث أو الأحداث محل التحليل ، فنلاحظ أن كثير من " المحللين " أو الباحثين - ضيوف هذه البرامج - يتعاملون مع الحدث الجاري  أو المشكلة المعروضة من مدخل Approach  شخصي وذاتي ، بعيدا عن التناول الموضوعي للحدث وتفكيك عناصره الفاعلة ، ومدى قدرات أطرافه ؛ فيسقط إما في وهدة التهوين من بعض الأطراف  أو التهويل من قدرات أطراف أخرى وفقا لطبيعة ونمط تحيزاته : كالقومية التي ينتمي إليها ، أو الطائفة أو المذهب الذي يتبعه ، أو البلد الذي يتبع له ، فيقدمها وكأنها حقيقة مؤكدة. ومخاطر هذا الخطأ أنه قد يشيع لدى المشاهدين تفاؤلا أو تشاؤما لا يستند إلى أساس علمي وتحليلي رصين ، كما أنه مع كثرة تكرار مثل هذا النمط من التفكير يوما بعد يوم وسنة بعد أخرى يتراكم في ذهن المشاهدين أو القراء مفاهيم مغلوطة ، ومعلومات غير صحيحة تتلبس ثوب الحقيقة ، فتذهب بنا إلى مسارات خاطئة .

 

ثانيا : الخطأ الشائع الثاني ، هو ما يقدم عليه بعض من هؤلاء " المحللين " و " الاستراتيجيين " من جلد الذات  أحيانا وإهالة التراب على تاريخنا وبعض إنجازاتنا وانتصاراتنا – حتى لو كانت قليلة – فيستخف بعناصر قوتنا ، وبالمقابل يميل إلى المبالغة والتهويل من قوة الخصم أو العدو  أحيانا أخرى ، وقد انتشر هذا السلوك خصوصا في السنوات التي أعقبت دخول المنطقة العربية في عصر التسوية و" الاستسلام " للمطالب الأمريكية والإسرائيلية ، بعد إقدام الرئيس المصري الأسبق أنور السادات على  مبادرته في نوفمبر عام 1977 وزيارة فلسطين المحتلة وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 ، ومن بعدها اتفاقيات " السلام " مع إسرائيل فى مارس عام 1979 ، ومن بعدها كرت السبحة كما يقولون ، فهبطت إلى السيد ياسر عرفات قائد منظمة التحرير الفلسطينية والمجموعة المتنفذة في المنظمة في أوسلو " عام 1993 ، ومن بعده الملك حسين في الأردن باتفاقية " وادي عربة " عام 1994 ، واستمر مسلسل التنازل والاستسلام بلدا بعد آخر حتى رسا في المغرب ودول الخليج الفارسي ( عدا الكويت ) في عام 2020 وما بعدها . ومن هنا تشرب " المحللون " وبعض " المثقفين - " الخلايجة والمغاربة ، بل وبعض المنتمين للحركات " الإسلامية الإخوانية " - بروح الاستسلام والتخفي حول شعارات " السلام " . وهكذا تشكلت شبكة سرية بين هؤلاء " المحللين " تمتد من المغرب إلى مصر والأردن وسلطة " أبو مازن " ، ومنها إلى السودان ، ومحاولات في العراق واليمن ، علاوة بالطبع على دولة الإمارات والبحرين والمملكة السعودية . 

صحيح أن هؤلاء مازالوا يشكلون نسبة ضئيلة ، والصحيح أن هناك مقاومة شعبية هائلة ضد هذا التيار ، غير أن تمويل هؤلاء الضخم  ومساندة وسائل الإعلام الحكومية في بلدانهم  علاوة على وسائل الإعلام الأمريكية والصهيونية في الخارج تعطي هؤلاء حجما ووزنا أكبر كثيرا من قيمتهم وقوتهم الحقيقية . 

ثالثا : يميل بعض " المحللين " العرب إلى الاستغراق في الماضي البعيد في نظرته للحاضر أو تأمله في المستقبل ، أو يبدأ في تناول الظاهرة أو المشكلة منذ اللحظة التي ظهرت فيها ، دون أن يتوقف بالتحليل عند جذور ومسببات المشكلة. وقد كشفت أحداث " الأزمة الأوكرانية " منذ فبراير 2022 ، هذا العقل المتهافت ، فكثير من ضيوف البرامج الحوارية  العرب – وطبعا غير العرب وخصوصا الغربيين - في القنوات الفضائية الكبرى يبدأون النظر والتحليل المزعوم من اللحظة التي بدأت فيها روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا ، دون أن يتوقف ولو للحظة واحدة أمام السنوات الثماني السابقة عليها ، والتي عرضت فيها الشاشات الفضائية جرائم النازيين الجدد في هذا البلد "أوكرانيا" بعد الانقلاب الدموي الذي قاده  بدعم من الغرب والولايات المتحدة في عام 2014 ، والمذابح التي ارتكبوها ، سواء في مدينة " أوديسا "  أو ضد سكان المقاطعات الشرقية والجنوبية الشرقية التي يقطن فيها أغلبية من العرقية الروسية . وقس على ذلك في كثير من الأحداث والمشاكل ، بدءا من فلسطين مرورا بأمريكا اللاتينية ووصولا إلى ما يسمى مأسأة الإيجور في الصين . 

رابعا : يميل كثير من " المحللين" العرب إلى استعمال العبارات المستترة  واللغة الرمزية  والاستعارات المختلفة حينما يجبره الأمرعلى التعرض لبعض الحكومات والحكام العرب الذين قد تتبع لهم هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك ، وخصوصا حينما يكون الجرم فاضحا ، والخطأ فادحا وظاهرا ، ويتكرر هذا الموقف في كافة وسائل الإعلام العربية ، ولعل قضية استدراج وذبح وتقطيع جثة الصحفى السعودي جمال خاشقجى في القنصلية السعودية في إسطنبول أصدق وأحدث تعبير عن هذه الحالة . 

كما يصمت كثير من هؤلاء " المحللين " والمثقفين العرب عن انتهاكات حقوق الإنسان في بعض الدويلات الخليجية التي مازالت تعيش في قلب وعقل القرون الوسطى ، حيث تتبدى علاقات المصالح الخفية بين هؤلاء " المحللين " وهذه الدول ، والتي تستخدم منصاتها الإعلامية والصحفية كوسيلة لشراء الولاءات فيما فوق حدودها الجغرافية . 

 

خامسا : والأخطر على العقل العربي هو هذه الفئة من " المحللين " والمثقفين العرب الذين تربطهم صلات وثيقة و سرية بأجهزة الأمن والاستخبارات في بلدانهم ، وأحيانا تتجاوز هذه الصلات إلى أجهزة بلدان عربية شقيقة تمتلك من المال ما يغري العقل ، ويغوي القلب ، فيتبدى هؤلاء على الشاشات الفضائية وعلى صفحات الصحف وكأنهم محللون موضوعيون ، بينما هم في الحقيقة مجرد سواتر تخفي وراءها أشد الأفكار فجورا ، وأكثر العبارات تضليلا ونفاقا ، فيروجون ويزينون قرارات هؤلاء الحكام حتى لو كانت هذه القرارات ضد مصالح الأمة بالمعنى الوجودي للكلمة . 

والحقيقة أن هذه الظاهرة الشاذة  برغم وجودها منذ سنوات بعيدة في أوساطنا العربية - وغير العربية -  لكنها  انتشرت بصورة واسعة بعد الفورة  والثروة النفطية بعد أكتوبر عام 1973 ، فأصبح هناك ما يشبه الاصطفافات بين المثقفين و"المحللين " العرب ، فهؤلاء يتبعون هذه الدولة العربية ، وهؤلاء يخدمون تلك الدولة الأخرى ، ومن ثم فهؤلاء وأولئك ضيوف دائمون على شاشات هذه الدولة أو تلك ، وأولئك كتّاب مستمرون في هذه الصحيفة أو تلك . لقد لعب المال الخليجي وأحيانا غير الخليجي دورا في تخريب عقل كثير من " المحللين " و " المثقفين " العرب طوال الخمسين عاما الأخيرة . 

وخطورة هذه الظاهرة أنها - بإخفائها طبيعة هذه الارتباطات السرية - تدلس على الرأي العام وعلى نطاق واسع من الجمهور العربي الذي تخفى عليه دوافع وارتباطات كل واحد من هؤلاء " المحللين " الغشاشين . 

سادسا : نأتى الآن إلى فئة أخرى ممن يطلق عليهم " الخبراء والمحللون الاستراتيجيون " ، وهم الضباط والجنرالات المتقاعدون ،  الذين امتلأت بهم الشاشات الفضائية المصرية والعربية خلال العشرين عاما الأخيرة ، بحكم الصراعات والحروب والنزاعات المسلحة التى حفل بها المشهد العربي في كثير من البلدان العربية ، فهؤلاء - وباستثناءات قليلة جدا – يغلب على خطابهم الطابع التبريري لسياسات وقرارات حكوماتهم ؛ ومن ثم يفتقر خطابهم إلى المعلومات الفنية ، والتحليلات العميقة لطبيعة ومسار وتداعيات النزاعات المسلحة والحروب المنتشرة هنا وهناك ، وهو المفروض أنه مناط حضورهم  وسبب استضافاتهم واستدعائهم. ونكاد نلاحظ ذلك أكثر ما يكون لدى الجنرالات المنتمين لدول ترتبط بعلاقات سياسية وأمنية مع العدو الإسرائيلي ، خصوصا من مصر والأردن والسعودية ، كما يلاحظ خلو خطابهم وتحليلاتهم من عمق استراتيجي بالمعنى العميق لكلمة ، من حيث تحديد أهداف النزاعات ، ومسار العمليات الحربية ، والنجاحات أو الإخفاقات التكتيكية أو حتى الاستراتيجية ، فخطابهم هنا تبريري خوفا من بطش السلطات الرسمية في بلدانهم ، حتى إن أحدهم من الأردن أثناء العشرية الدموية السوداء في سوريا كان محترفا في التبرير والدفاع وإبراز ما سمّاه نجاحات المجموعات الإرهابية المسلحة - بما فيها تنظيم داعش - في سوريا ، ومن يراجع برامج هذا الجنرال سوف يجد العجب العجاب ، وهو مازال حتى اليوم في بعض القنوات ليبرر جرائم النازيين الجدد ، ويتباهى بتحليل الإنجازات الأوكرانية والإخفاقات العسكرية الروسية . 

كما حفلت وتسابقت بعض الشاشات العربية في استضافة " خبراء " أجانب ، أو موظفين سابقين في أجهزة الدول الأجنبية وخصوصا الأمريكية ؛ لنكتشف أن الكثيرين منهم صهاينة بالمعنى الحرفي للكلمة  ومعادون لمصالحنا العربية بأكثر من الكيان الإسرائيلي ذاته ، وكل ذلك تحت زعم " الرأي والرأي الآخر " . 

على أية حال .. لقد أصبح استخدام المصطلحات والتعبيرات والتوصيفات والتعريفات للضيوف على الشاشات العربية بلا  ضابط أو رابط ، بحيث أصبحت تعبيرات " الخبير الاستراتيجي " و" الخبير الاقتصادي " بمثابة مهنة من لا مهنة له ، تطلق بلا ضوابط علمية ، أو إنجازات مشهودة لأصحابها ، وهكذا اختلط الحابل بالنابل كما يقولون . 

والحقيقة أن المتابعة الدقيقة والدؤوبة لشاشاتنا العربية - وخصوصا في دول التسوية والعلاقات السياسية العلنية وغير العلنية مع الكيان الإسرائيلي - بقدر ما تثير من الأحزان ، بقدر ما تحفل بالكثير من السخرية .