معرض الكتاب.. نصف قرن من النشر والإبداع والثقافة

 

تبدأ الحكاية حين تقدم الفنان عبد السلام الشريف بمقترح لإقامة "معرض دولي للكتاب" إلى وزير الثقافة ثروت عكاشة، ليوصي الوزير مؤسسة "التأليف والنشر" بتبني الاقتراح.

اتصلت ـ المؤسسة ـ بسوق الكتاب الدولي المعروف في «ليبزج»، وأرسلت مندوبها «إسلام شلبي» للتمهيد لإقامة معرض شبيه على النطاق العربي، ليربطه بحركة نشر الكتاب دوليًا من خلال التعامل مع المشتركين في معرض ليبزج السنوي، وكان لحماسته الفائقة وكفاءته المذهلة الفضل الأكبر في نجاح الفكرة.

رغم صعوبة توقيت السعي لتنفيذ الفكرة، بعد شهور قليلة من هزيمة يوليو 1967 لكن الجهود كللت بالنجاح، فاستطاع مندوب "التأليف والنشر" من إشراك 27 دولة وأكثر من 400 دار نشر في ظل تهديدات إسرائيلية بمقاطعة الدور المشاركة.

نتيجة هذه الاتصالات المثمرة بدأ الإعداد لمعرض الكتاب الدولي الذي أقامته المؤسسة لأول مرة في يناير 1969 كي تتيح الفرصة أمام الجامعات والهيئات العلمية للوصول إلي حاجتها من المراجع بأسعار مناسبة.

 

وُضعت خطة نشر للمعرض استهدفت فئتي الشباب والأطفال، فأصدر مجموعة سلاسل، وترجمات، ومؤلفات في الفكر السياسي والاشتراكية، والأدب العربي الحديث، في الرواية والدراسات النقدية والشعر، والأدب الشعبي الحديث، والأدب العالمي، طارقًا أبوابًا لا يقربها الناشر الخاص، فضلا عن كتب التراث، ومذاهب الفكر والتيارات العالمية، في الفلسفة والاقتصاد، إضافة لاستكماله مشروعات «تاريخ الحضارة المصرية» و«تاريخ البشرية» والانتهاء من إعداد معجم «الرائد المصور»، وإعداد الشطر الأكبر من«الرائد الصغير»، مواصلا مشروع «القاموس الإنجليزي العربي» بعد توقفه أربع سنوات، كما ظهر كتاب «القاهرة في ألف عام» بأربعة لغات، وقاموس العلوم السياسية، ومعجم المصطلحات والأعلام الفلسفية، و«مآذن القاهرة»، و«كنائس مصر».

[caption id="" align="aligncenter" width="800"] الوزير ثروت عكاشة يفتتح أول معرض للكتاب 1969[/caption]

ربما لا يعرف بعض المتابعين أن معرض القاهرة الدولي للكتاب بصورته الحالية، والذي انطلق في 1969، سبقته محاولات لإقامة معارض صغيرة للكتاب، كانت أولها في أبريل 1946 بحضور وزير المعارف، وعديد من الأدباء والمفكرين والكتاب، وضم المعرض قسمين، الأول لكتب من الدول العربية، والثاني للكتب العربية المطبوعة في أوروبا وأمريكا. أقيم المعرض الثاني عام 1963 تحت مسمى «أسبوع الكتاب»، وأطلق عليه البعض «مهرجان الكلمة العربية»، ووصفه آخرون بـ «عيد الثقافة». شارك فيه 10 ناشرين مصريين، إلى جانب دور نشر من 4 دول عربية هي سوريا، والعراق، والأردن، ولبنان. تلك المحاولات كانت الهاجس الذي ظل يلحّ حتى تحقق في صيغة «معرض القاهرة للكتاب» كفعالية رسمية أطلقتها وزارة الثقافة لتستمر من وقتها، وبانتظام، إلى وقتنا الحالي.

 

انطلقت الدورة الأولى لمعرض القاهرة الدولي من 22 إلى 30 يناير 1969، بأرض المعارض بالجزيرة (مكان الأوبرا الحالية)، وتزامن مع احتفال مصر بـ « ألفية القاهرة».

شارك فيها 462 ناشر ا من 30 دولة منها: سوريا، والجزائر، والكويت، وتونس، ولييبيا، ولبنان، وجامعة الدول العربية، ويوغسلافيا، وبولندا، والاتحاد السوفييتي، وإسبانيا، وألمانيا، ورومانيا، وفرنسا، واليونان، والفاتيكان، وإيطاليا، والمجر، وكوريا، وثلاثة ناشرين من أمريكا، و12 من إنجلترا.

نجحت الدورة، واكتسب المعرض تدريجيا زخما كبيرا، حتى بات بالمقاييس الدولية، الثاني في الأهمية والحجم والانتظام على مستوى العالم بعد معرض فرانكفورت.

[caption id="" align="aligncenter" width="800"] جمهور أول معرض للكتاب[/caption]

ونشرت جريدة الجمهورية تغطية لافتتاح المعرض، بتاريخ 22 يناير 1969( في باب الفن)، بتوقيع الراحل «صلاح درويش»، جاء فيها، إن إسرائيل وضعت الناشرين المشاركين في المعرض على القائمة السوداء، ومنع كتبهم من التداول داخل أسواقها، ومن بينهم الناشر اليهودي «يول فيفر» رئيس اتحاد الناشرين في نيويورك، وهو يمثل 260 دارا للنشر، وكذلك الناشر الألماني «لتفنجز» الذي طبع أعمال الدكتور «طه حسين» و«العقاد» و«توفيق الحكيم».

وقد أولى ناشرون من أمريكا وفرنسا اهتماما كبيرا بالمعرض فاشتركت دور النشر أوكسفورد وكمبردج وأرنولد، ومن فرنسا «هاشت برداس» و«لاروس» و«إلينيه»، إضافة إلى الأمم المتحدة، وحرصت الدول الاشتراكية على إعطاء هذا المعرض صيغة ذات أهمية فأرسلت وفودها على مستوى نائب وزير الثقافة.

جاءت الدورة الثانية (1970) أكثر تألقا، فلم يكتف القائمون عليها ببيع وشراء الكتب فقط، حيث أسسوا لندوات مسائية لأول مرة، وفي الدورة الثالثة كان لبدر الدين أبو غازي (1970: 1971) رؤية لإقامة المعرض بالمحافظات، لتأخذ سبيلها إلى التنفيذ خلال السنوات اللاحقة، حتى وصل عدد المعارض بمختلف المحافظات قرابة المائة. وفى الدورة السادسة 1974تم تخصيص سراي كاملة لعرض أحدث إصدارات دور النشر المختلفة محليا ودوليا، وفي الدورة السابعة تم منح جائزة دولية من اليوسكو لأفضل ناشر تقديرا لمكانة مصر فى إثراء الفكر والثقافة.

[caption id="" align="aligncenter" width="800"] منصور حسن في افتتاح معرض الكتاب عام 1981[/caption]

في الدورة الـ 13(يناير 1981)، وهي الوحيدة التي افتتحتها «جيهان السادات» زوجة رئيس الجمهورية، وكان «منصور حسن» وزيرا للثقافة، والشاعر الكبير «صلاح عبد الصبور» رئيسا للهيئة العامة للكتاب، شاركت إسرائيل بأوامر من الرئيس السادات، وقوبل ذلك بموجات غضب هائلة من الكتاب والمثقفين، واحتشد المئات من رافضي «التطبيع»، بينهم كثير من المشاهير، لكن الموقف الرسمي استهان بالاحتجاجات، وزار «إلياهو بن اليسار» سفير إسرائيل في القاهرة سراي 7 وفيها جناح توكيل «إدكو إنترناشيونال» الذي يعرض الكتب الإسرائيلية، وكان الجناح مجاورا للجناح الفلسطيني «الفتى العربي» الذي يرفع نسخا كثيرة من «علم فلسطين» على واجهته، فحاول مسئول الأمن في السفارة الإسرائيلية تغطية الأعلام الفلسطينية بمطبوعات عليها طوابع بريد إسرائيلية، أثناء قيام افتتاح «بن أليسار» للجناح أمام عدسات التليفزيون الإسرائيلي، واستفز أداؤه حشود المحتجين، في أول اختبار لرد فعل الشعب المصري تجاه التطبيع، وكانت المواجهة في اللحظة الأولى، حيث انتزعت اللبنانية «حسناء مكداش» صاحبة ومديرة «دار الفتى العربي» اللافتات الإسرائيلية، فسقطت إحداها فوق رأس السفير الإسرائيلي الذى هرول مذعورا من فوره إلى خارج أرض المعرض، وأُقتلع العلم الإسرائيلي بالقوة، واشتعل المكان بالهتافات ضد إسرائيل، وتوالت بيانات أحزاب التجمع والعمل والأحرار، تطالب برفع علم فلسطين على جميع دور العرض، ووقع على البيانات لطفى واكد «نائب رئيس حزب التجمع»، وفؤاد نصحى عن حزب العمل، وكامل زهيري نقيب الصحفيين، وأحمد نبيل الهلالي عن مجلس نقابة المحامين، وعبد العظيم مناف، وسمير فريد.

ولعبت «لجنة الدفاع عن الثقافة القومية» (تأسست 2 إبريل 1979 عقب اتفاقية كامب ديفيد)، الدور الرئيسي في واقعة المعرض، بتجميع كل القوى المعارضة في مظاهرة موحدة ضد مشاركة إسرائيل، وبالتواصل مع النقابات والأحزاب، حصلت اللجنة على تأييد عدد كبير منها للبيان الذي وقّعه عدد كبير من المثقفين وكان مضمونه « لا للصهيونية، ولا لتمثيل إسرائيل في معرض الكتاب»، وتم توزيعه على رواد المعرض، وتوجيه مظاهرة ضخمة إلى الجناح الإسرائيلي، وألقت المباحث القبض على «صلاح عيسى» و«حلمي شعراوي» وهما يوزعان البيان وعلم فلسطين على جمهور المعرض.

ورصدت جريدة الأهالي صداما بين الناشرين الفلسطينيين والإسرائيليين في افتتاح المعرض الذي حضرته السيدة جيهان السادات زوجة الرئيس المصري، عندما حاول مسئول إسرائيلي حجب العلم الفلسطيني عن عدسات آلات التصوير أثناء مرور «إلياهو بن اليسار»أمام «دار الفتى العربي».

[caption id="" align="aligncenter" width="800"] الشاعر صلاح عبدالصبور[/caption]

الموجع في هذه الواقعة، حسب معظم الروايات والكتابات التي تناولتها، أن الشاعر الكبير «صلاح عبد الصبور» وافق على مشاركة إسرائيل في المعرض، وعلى اقتحام الأمن للمكان، ولم يبد أي اعتراض بخصوص القبض على المحتجين، وربما كان كل هذا هو سبب الجملة التي قالها له لاحقا الرسّام «بهجت عثمان» أثناء احتفالهم بيوم ميلاد «أمل دنقل» في العام ذاته (1981) في بيت «أحمد عبد المعطي حجازي» بمصر الجديدة، حيث قال له الفنان «بهجت» حين التقاه: «إنت بِعت يا صلاح»، فأصابته أزمة قلبية، ونقلوه إلى مستشفى، ليلفظ أنفاسه الأخيرة.

كانت النتيجة المباشرة للحدث، هي انسحاب إسرائيل من المعرض، وإغلاق جناحها، وباءت محاولة ثانية، وأخيرة، في يناير (1985) في فترة حسني مبارك، حيث تصدت لها «لجنة الدفاع عن الثقافة القومية» مجددا، ونسقت مع دور النشر العربية والمصرية لإقامة معرض في مبنى نقابة المحامين، بديلا للمعرض الرسمي، وتدفقت عليه حشود المثقفين، لكن السلطات بادرت باعتقال بعض أعضاء اللجنة، وقبضت على عدد كبير من الكتاب والمثقفين بتهمة انتمائهم إلى أحزاب شيوعية سرية.

بداية من الدورة 16 (1984)، في عهد د. «سمير سرحان»، انتقلت فعاليات المعرض إلى أرض المعارض بمدينة نصر، وهناك اتخذ طابع «العرس الثقافي»، لإقامة اللقاءات الفكرية، والمناظرات بين كبار الأدباء والفنانين والمفكرين من مصر والوطن العربى والعالم.

أصبحت الاحتفاليات الفنية والندوات جزءا من نشاط المعرض، وكان من أهمها المناظرة الشهيرة التي تمت بين كل من «فرج فودة» و«محمد أحمد خلف الله» من جانب والشيخ «محمد الغزالي»، ود.«محمد عمارة»، والمستشار «مأمون الهضيبي» على الجانب الآخر، وأدارها «د.سمير سرحان»، وكانت تلك المناظرة سببا مباشرا في اغتيال «فرج فودة» على يد اثنين من الجماعة الإسلامية يوم 8 يونيو1992، بعد ستة أشهر من انعقاد الندوة.

[caption id="" align="aligncenter" width="800"] مبارك وفاروق حسني يفتتحان المعرض عام 1988[/caption]

فى عام 1986 استجد تقليد جديد، ومهم، ورسمي بأن افتتح رئيس الجمهورية الأسبق «محمد حسنى مبارك» دورات المعرض بداية من الدورة 18 (1988)، وحتى ثورة 25 يناير 2011، التي تم إلغاء المعرض خلالها (الدورة 42) ليعود المعرض في 2012، بإصرار من أحمد مجاهد رئيس هيئة الكتاب وقتها على إقامته رغم الظروف الأمنية، وكانت تونس هى ضيف الشرف.

يذكر أن الدكتور ناصر الأنصاري رئيس هيئة الكتاب كان صاحب فكرة "ضيف الشرف (2006)، وكانت دولة ألمانيا أول ضيف شرف، وبعدها إيطاليا، ثم الإمارات، وإنجلترا، وروسيا، والصين، وتونس، وليبيا، والكويت، والسعودية، والبحرين، والمغرب، والجزائر، على التوالي (تحل السنغال هذا العام ضيف شرف المعرض.( كما أضاف الأنصاري إلى فعاليات معرض الكتاب "شخصية العام" 2007، فتم اختيار نجيب محفوظ وقتها، تلته سهير القلماوي، وطه حسين، والشيخ محمد عبده، وجمال الغيطاني، وصلاح عبد الصبور، وعبد الرحمن الشرقاوى.

وفي 2017 خلال دورة المعرض الثامنة والأربعين استقطب د.«هيثم الحاج علي» شباب الجامعات المتطوعين لخدمة زوار المعرض. كما أصبح لكل دورة شعارها الذي يواكب حدثا مهما، أو يؤصل تاريخا معينا، مثل «حوار لا صدام»، و«الثقافة والتجديد»، و«الشباب وثقافة المستقبل»، و«الثقافة والمواجهة»، و«القوى الناعمة..كيف؟».

استضاف المعرض في دوراته العديد من المفكرين والوزراء والعلماء والسياسيين والفنانين والأدباء والشعراء من مصر ودول العالم للمشاركة بنشاطه الثقافي من ندوات للقاءات فكرية، واتسع عاما بعد حتى وصل إلى 17 نشاطا، منها: « المحور الرئيسى، واللقاء الفكري، وكاتب وكتاب، والأمسيات الشعرية، والاحتفاليات الفنية، والمقهى الثقافي، والمسرح المكشوف، وضيف الشرف، ومخيم الفنون،وبيت البادية، والسينما، ونشاط الطفل، وملتقى الشباب، والموائد المستديرة.. وفي العام الماضي، ومع اليوبيل الذهبي لهذه الفعالية التاريخية،أقيم المعرض للمرة الأولى على أرض المعارض الجديدة بمنطقة التجمع الخامس، وحقق نجاحا كبيرا في التنظيم والإقبال الجماهيري.

خريطة بـأماكن معرض الكتاب منذ 1969 حتى 2020