فراج إسماعيل يكتب: نبتدي منين الحكاية

ذات مصر

السؤال حزين وليس برومانسية السبعينيات في أغنية العندليب عبدالحليم حافظ. لا يبدأ وينتهي بقصة حب، وإنما يسافر مسافات ومسافات، وربما قارات وقارات، وفي نهاية الرحلة قد يجد الإجابة "البقية في حياتك".
لا أريد تعقيد الحكاية وتحويلها إلى فزورة بحكم أننا في رمضان الذي اشتهر في جيلنا بأنه شهر الفوازير، من نيللي إلى شيرهان وصولا إلى سمير غانم، وفي الأجيال الحديثة بشهر مقالب رامز جلال.
قضيت أول أيام رمضان من الصباح إلى قبل الغروب بقليل في مستشفى خاص بمدينة نصر، في انتظار التعطف بفحص الحالة التي تستلزم السرعة وعدم التأخير في ظل أوجاع هائلة.
ماذا يفعل أي مريض عادي في مستشفى حكومي إذا كانت المستشفيات الخاصة بهذا السوء واللا إنسانية.
الطبيب يريد الأشعة العادية والأشعة المقطعية ثري دي إن احتاج الأمر. تصل الموافقة سريعا، لكن موظف التعاقدات يعترض بأن الأشعة المقطعية ثري دي ليست هي ثلاثية الأبعاد الواردة في الموافقة. 
طبعا لا فرق. ترجمة يعرفها أصغر طفل يتعامل مع الإنترنت، وليس موظف يتعامل على مدار اليوم مع أسماء التحاليل والأشعة والعمليات الجراحية. 
أحد الأطباء ابتسم وغادر المكان بدون تعليق، فماذا عساه أن يفعل مع تلك السخافة!
احتجنا إلى مجهود مضاعف لإقناع الموظف، وقد اقتنع في النهاية، لكن ماذا يفيد الاقتناع في حالات حرجة، يكون قد فات معها الميعاد وانتقل المريض إلى الرفيق الأعلى؟!
الحكاية في التفاصيل تلخص مدى ما وصل إليه نظامنا الصحي من تدهور أخلاقي وإنساني. 
لا ينبغي تقديم المال والأنظمة الروتينية على شرف المهنة وهدفها وهو إنقاذ المريض أو التخفيف عنه، وقبل ذلك أهمية اختيار العاملين في الوظائف الإدارية المساعدة، ممن يمتلكون سيرة ذاتية ممتازة، والمدربين على أعلى مستوى للتعامل مع المرضى.
المرفق الطبي لا يقتصر على كفاءة الأطباء وحدهم، وإنما أطقم التمريض والأشعة والتحاليل، وقبلهم كلهم الفاترينة التي تستقبل المريض، الممثلة في الموظفين الإداريين وأقسام الطوارئ.
قد أكون قادرا على دفع التكلفة مسبقا، ولكن ماذا عن أكثر من 90% لا يمكنهم ذلك، بعضهم لا تغطيهم جهة تأمينية، وبعضهم الآخر لديهم جهات تأمينية، لكن الموافقات المطلوبة تتأخر بطبيعة الحال، بينما الحالات الطارئة تحتاج إلى تدخل سريع وليس إلى موظف يحفظ الروتين عن ظهر قلب، بأسلوب الحفظ وليس الفهم.
في المرافق الصحية الحكومية المجانية ستجد بلا شك الوضع مزريا، وإذا كان هناك تأمين فيجب على المريض أن يتحمل وجعه وينتظر أيهما يسبق الآخر. لقاء رب كريم أو موافقة جهة التأمين.
تحول المستشفيات الخاصة إلى هايبر ماركت، لا يدخله إلا من  يستطيع دفع فاتورته، ومن لا يستطيع فليبحث عن بقال صغير أو حلاق صحة، أمر يهبط بقيمة الدولة ودورها المجتمعي ونظامها الصحي. 
تسهيل وتسريع علاج المرضى وعدم القسوة عليهم، أهم أيقونات الدول الحديثة.
"إسرائيل" مثلا تقدم سياحة علاجية ممتازة، ويقصدها مواطنون من دول الخليج لتلقي علاج سهل ومتقدم ومضمون النتائج.
في دول الخليج.. وأقصد هنا دولا عشت فيها كالسعودية والإمارات والبحرين.. الذهاب للمستشفيات نزهة لذيذة وغير شاقة، تبدأ من تعامل رائع في الاستقبال، ودخول فورا إلى الطوارئ لبدء التدخل الطبي وتأجيل أي تفاصيل إدارية ومالية أخرى.
فاجأتني آلام حصوة الحالب ذات يوم في جدة، فذهب بي أحد الزملاء سريعا إلى مستشفى جدة الوطني. فورا تعاملوا مع الحالة، وأفقت من البنج على ابتسامة طبيب نيجيري ومعه زجاجة بها سائل وحصوتين صغيرتين، وهو ينصحني بكل عطف وإنسانية أن أتجنبها بشرب أكثر قدر من المياه.
أما باقي التفاصيل من موافقات أو معاملات مالية فلم تكن من الأولويات.
في شهر رمضان أيضا فاجأني دوار شديد فذهبت إلى مستشفى البحرين الدولي بالقرب من مكان سكناي، وهناك تعاملوا سريعا مع الضغط المرتفع ولم يسمحوا لي بالعودة بمفردي إلى المنزل، حتى لو كتبت ألف إقرار، فالمريض حالة إنسانية لا يجب المجازفة أو المخاطرة بها.
حكاية الدول تبدأ وتنتهي بفهم عميق لأهمية المرافق الطبية، وأنها العنوان الحقيقي العريض للازدهار والحياة الكريمة، وما دونها عناوين فرعية أو صغيرة.
ذلك وحده يحدد قيمة الإنسان واحترامه أيا كانت ظروفه وإمكانياته. 
الحق في الحياة وفي الصحة يتساوى فيه جميع البشر.. الغني والفقير. المواطن والأجنبي. العدو والصديق.