هشام الحمامي يكتب: استرداد رمضان.. واختطاف لا يليق!

الكاتب الكبير هشام
الكاتب الكبير هشام الحمامي

ليست عمل شاق ولا هو مستحيل.. بل كلما أتى الشهر الكريم ورأينا ما يجرى في نهاره ولياليه علينا أن نتفكر بجدية ونتحاور بصوت عالي حول ذلك ..رمضان تم اختطافه! وهذه حقيقة يجب أن نٌقِر بها ..تم اختطافه من الذين (يتبعون الشهوات) ليجعلوا حال الناس(مايل) عن قوامه وقيامه فينا بحق وحقيقي.

كل الشهوات التي جاء الإسلام بقيم وأخلاقيات ليضبطها في إطارها الإنساني الطبيعي وزاد فجعل فينا شهرا..ثلاثين يوما تأكيدا لهذا الضبط وتسهيلا له ولممارسته ومزاولته بشكل يومي في إطار فكرة ( العادة) بمغزاها ودلالاتها وعمقها في النفس الإنسانية  ويربطها بكل ما هو صحيح وجميل في العادات والواجبات اليومية كما ينبغي ان تكون وفى صورتها الأكمل والأرقى.. فتصبح جزء من طبيعية الشخصية الإنسانية الإيمانية المضيئة.. رمضان وضع خط النهاية للفكرة الخطأ ( كما بدأت ستبقى) .

*********

رمضان وكما يقول الأستاذ صادق الرافعي سيكون أيضا (تنسيقا لمظهر الأمة كلها على مقتضى هذه الواجبات.. وتوحيد مشاعرها وتمازجها لتقويم هذا المظهر بتقويم أجزاءه البسيطة في عادات الناس البسيطة ..               

وليس مثل رمضان وليس مثل أيامه ولياليه في إحداث هذا الأثر العظيم ..أمام الذين يتبعون الشهوات ويريدون أن يجعلوا حال الناس (مايل وميت هايل) كما يقول المصريون في أمثالهم.. ممن تدحرج أغلبهم في بحر الشهوات بفكرة الزحلقة والزفلطة واحدة..واحدة..                                         

 لكن المؤكد أن هناك(رؤوس)تقوم على شطآن هذا البحر يسهلون فكرة الزحلقة هذه ويدعون اليها .. 

*********

يقول البعض أنها بدأت من أيام الدولة الفاطمية (969- 1171م) التي اعتمدت في تأسيس نفسها على وسائل لم يسبقها إليها سابق كما يقول الأستاذ العقاد رحمه الله(ت1964 م)من تسخير العلم والفن والقصص إلى المواسم والمحافل.. إلى الأعياد والعادات الاجتماعية.. و كما يقول هي بحق نموذج لقيام الدول بـ(الحول والحيلة).

ولعل نظام (حركة الضباط1952م ) اعتمد في سنواته الأولى على فكرة (الحول والحيلة) هذه بالنمط الفاطمي لكن في جانب واحد فقط من جوانب الدولة والحكم وهو الاستقرار والاستمرار والسيطرة.. ما عادا ذلك لم يجد المصريين في أيديهم إلا أيديهم .. بل و حين انتبهوا في نهاية حكم (الزعيم الخالد) لم يجدوا أيديهم أصلا!

في حين أن الفاطميين مثلا أنشأوا قلب الشرق (القاهرة) سنة 969م و التي ستكون حاضرة الشرق العظمى.. وأنشأوا حضن الدين (الأزهر الشريف) سنة 970م والذى سيكون جامعة الإسلام الكبرى ..والكثير في الحقيقة من صور وأشكال المدنية والعمران.                                           

*********

لكنهم أدخلوا على عادات المصريين الاجتماعية الكثير مما (استحلاه) المصريين الطيبين من عادات الفرفشة والتفاريح وجرت الأيام بما تجرى به. وحتى حين ذهب الفاطميين بمذهبهم وذهبهم ..وجاء (صلاح الدين/ ت 1193م) ووضع يده في يد المصريين وأجابوه.. وأجابوه بقوة.. الصراحة .. لكنهم استبقوا هذه العادات التي أصبحت قطعة من ذاتهم الاجتماعية والدينية. 

إن يكن من أمر فواقع الحال أن هناك من اختطف شهر رمضان ووظفه لغرض بعيد عن مقصودة وهدفه العميق كشهر كل عام .. للتوقف والتبين والمراجعة والتصحيح والحذف والتثبيت على مستوى(الفرد والمجتمع)..

جاء من جاء ودفع بعملية الاختطاف هذه إلى أبعد مدى ممكن أن تٌدفع إليه في الطريق المعكوس ووجد الطريق مفتوحا ومتاحا للأسف.. وما الخيام الرمضانية والليالي الرمضانية والسهرات الرمضانية والأكلات الرمضانية والمسلسلات الرمضانية والفوازير الرمضانية ..الخ  الخ ..إلا عزفا على هذا  اللحن القديم.

********

لكن ما علاقة عمنا بليز باسكال(1623- 1662م) بذلك ؟ وإيه جابه أصلا في هذا المعترك العريك؟ 

(اسجد.. وحرك شفتيك بالصلاة.. وستؤمن ..) قالها باسكال لمستكبرى زمنه بتوع (الصدفة الذكية) التي أوجدت الوجود المطلق في إبداعه والمطلق في قوانينه ونظامه والمطلق في استمراره ورعايته. وهو هنا ينصح بالخطوة الأولى التي يسمونها (الشرط الإنساني للتغيير)  ..اذا كانت فكرة الأيمان صعبة عليك وتريد أن تصل اليها فعلا (..أسجد ...... ) وسيأتيك الإيمان.. 

وكيف يأتيك وهو أصلا فيك ..؟ ألم نقل جميعا (بلى) يوم خلقنا الله .. وقال لنا ألست بربكم ...؟ سبحانه وتعالى علوا كبيرا..

الحاصل أن المعنى(الباسكالى) العميق سنطلبه ونبحث عنه في رمضان .. وفكرة (استرداد رمضان) .. التي تشغلنا جميعا و التى لها في أدبياتنا وثقافتنا الإيمانية لها ألف حضور وحضور .. بدأ من الآية الكريمة في سورة محمد (والذين اهتدوا.. زادهم هدى وأتاهم تقواهم).. مرورا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يستعفف.. يعفه الله.. ومن يستغن.. يغنه الله).. والحديث (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم .. ومن يتحر الخير يعطه.. ومن يتق الشر يوقه) مرورا بتلال الروايات الصحيحة والأفكار والمعاني في تراثنا الرائع الثرى ..مما يعيننا على الشحن الدائم لأعمالنا بالنوايا الطاهرة وما يترتب عليه من توسيع غير محدود لها  بل وتطوير وتجديد وتعظيم لها في عقل الناس وقلب الناس ودنيا الناس وحياة الناس..

*********

تقول الحكاية أن( باسكال) كان في عصره يخوض معركة كبرى للغاية من أجل برهان وإثبات وتثبيت وإحقاق فكرة (الإيمان بالله) العلى الأعلى خالق كل شيء وربنا ورب كل شيء .. لدرجة أنه قدم لكل عبيط معبوط عرضا مغريا للغاية .. يصل به معه إلى أنه لن يخسر شيئا لو آمن بالله .. ما عرف بعدها بـ (رهان باسكال) الكسبان .. 

سنجد في أحاديث عمنا باسكال إلى هؤلاء الناس ما يتنسم فيه أحاديث (العقل الباحث) التي طرحها (القرآن العظيم) مثل الآية الكريمة في سورة النساء (وماذا عليهم لو أمنوا بالله واليوم الأخر..) وغيره مما سنراه.

باسكال كان متعدد المواهب وكان عاشقا للعلوم والرياضيات وترك فيها أثارا علمية لازالت حاضرة إلى الأن مثل : مثلث باسكال الشهير ونظرية الاحتمالات وضغط السوائل وهو الذى اخترع الألة الحاسبة التي كانت مقدمة طبيعية فيما بعد للحاسب الآلى .. 

ويقولون أن الغيرة والحقد والحسد ( أهلا .. وسهلا..)كانت سببا قويا لتجاهل وإهمال دراساته ونظرياته وقتها..والتي لم تستفد منها البشرية بحق إلا في القرن التاسع عشر أي بعد قرنين من موته .. سواء في العلم أو حتى في الدين ..وله كتيب دينى في شكل رسائل (18 رسالة) عنوانه (الرسائل الريفية) باسم مستعار طبعا .. **********

باسكال كان يرى أيضا أن هناك حدود للحقائق التي يمكن أن يدركها العقل..وأن الإيمان ينبع من القلب / الفؤاد بل ويكاد يكون هو الدليل والمرشد الرئيسي للإنسان في مسائل ما وراء الطبيعة ( الغيب) .. أول صفة من صفات (المتقين) كما ورد في أول سورة البقرة .. رحم الله الأستاذ طارق البشرى(ت 2021م) .. الذى كان يفيض بالحديث فكرا وفهما وحبا عن أثر هذه الأية( الذين يؤمنون بالغيب ..) عليه في ضبط وتوجيه (العقل) في اتجاه أهم وأعظم أدواره ووظائفه في الإنسان ..من تفكير وتدبير وبحث وتحليل ووتوقع واستنتاج .. 

*********

ولباسكال مقولة مختصرة وبسيطة ومعبرة للغاية (كي تكون أفعالنا صحيحة يجب أن تكون أفكارنا صحيحة).. وقيمتها ليست في(توازنها)فيما بين الفكر والفعل أو الفكر والحركة أو الفكر والسلوك..ولكن _وهو الأخطر_في (اختلالها) ..!!!                                                          وهو ما رأيناه للأسف المأسوف في (الأربعين سنة) الماضية على مستوى الأحزاب والحركات الإصلاحية والتي نتمنى أن تكون نهاية لـ (التيه والتائهون). 

*********

اذا(استرددنا رمضان) في إحياء وبعث(درب الوصول والقرب).. لتغير حالنا وحال الناس.. بروعة التفكر وطول النظر وعظمة الوسيلة وجلال الغاية. 

وفورا وحالا.. سيستيقظ (الإنسان النائم) وينتبه (الإنسان التائه).. فينا وبنا ومنا ولنا .. وللأمة كلها.