د. هشام الحمامي يكتب: النفس الرهينة.. لماذا يهاجم (غير المتدين) الدين؟

ذات مصر

ما أتفه الشخص في حالة فلان أو علان من الأسماء التي تهاجم الدين والتدين والحالة الدينية بكل ما فيها من ثوابت مجمع ومتفق عليها .. أو تهاجم ما أحدثه وأنتجه الناس في واقعهم الاجتماعي والسياسي والتاريخي بشكل عام، وتداخلت فيه عوامل كثيرة مما تحويه (النفس البشرية) من تفاعل إيجابي أو سلبى مع الحياة والدنيا والناس. 

وهو كثير على فكرة واهتم به العلماء المجددون ونفوا ما نفوا فيه وأكدوا ما أكدوا منه وسكتا عما سكتوا عنه. 

والإسلام أصلا بطبيعته الإيمانية والعقائدية الواضحة اليسيرة يمثل (الحقيقة الأكمل للإنسان الأمثل) بدون مبالغة أو تحيز أقول هذا بكل اطمئنان ويعلمه غيرى أكثر منى بلا مزايدات من هنا أو هناك، وفكرة (التيسير والتخفيف ورفع الحرج) حاصرت ناس كثيرة ممن يميلون بطبعهم الوراثي والنفسي والاجتماعي إلى التعقيد والتشديد.

فالله أمر باليسير وجزى عليه بالكثير كما قالوا. 

******

ويٌروى عن(الفاروق) إذا جاء رمضان قال للناس: إن هذا الشهر كتب الله عليكم صيامه ولم يكتب عليكم قيامه، ومن استطاع منكم أن يقوم فإنها من نوافل الخير التي قال الله، ومن لم يستطع منكم أن يقوم فلينم.                                                                             

ولما رأى مشهد الناس في المسجد بعد صلاة العشاء في رمضان.. ولك أن تتخيل كل واحد يصلى وحده !..  فقال لهم: لو اجتمعتم في صلاة واحدة كان أفضل.. ثم استحسنها الناس من بعده واعتبروها صورة جميلة من صور رمضان  المميزة وحافظوا عليها.

ويروى عنه رضى الله عنه أنه رأى الناس في الحج يتزاحمون على مكان.. فقال ما هذا؟ قالوا: مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ..فقال: هكذا هلك أهل الكتا وأضاف: من عرضت له صلاة فليصل ، ومن لم تعرض له صلاة فليمض..                                                                                                    

 نموذج تام لكمال الفهم والوعى و القدرة والعمل في مجال الفعل التاريخي المنتج المتوالد المتجدد.

******

الفهم ..الفهم.. أيها الناس.. كما قال رضى الله عنه في وصيته الشهيرة لأبى موسي الأشعري : الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك .. وما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه ..ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها..) إلى أخر وصية القضاء المعروفة الذى ختمها قائلا: (..وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم .. فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر.. ويحسن به الذكر ) والسلام.

هذه الوثيقة على فكرة محفوظة في(المعهد الدولي لحقوق الإنسان) بجامعة (دى بول) بشيكاغو بأمريكا وجامعة مينسوتا أيضا ونشرتها دار الشروق في 2003م  ضمن موسوعة(الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان) في مجلدين ..أعدها العلامة العبقري د/ محمود شريف بسيوني (1937- 2017م) بن حقوق القاهرة والذى للأسف غادر مصر مضطرا سنة 1964م مع من غادر من أبنائها الكرام في دولة الستينيات البهيرة.

د/بسيوني يوصف عالميا بأحد أبرز فقهاء القانون الجنائي الدولي في العصر الحديث وأكثر من تُستشهد بكتاباتهم في المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية (أعلى محكمة في القضاء الفيدرالي) كما تُرجمت مؤلفاته إلى العربية بالطبع وأكثر من 9 لغات منها الصينية والفارسية والفرنسية والألمانية .. وعفوا لهذا الاستطراد الرمضاني .. حاجة من بركات سيدنا عمر. 

************

رضى الله عن عمر ومن كان مثل عمر ومن قرأ وكتب عن عمر ومن تفقه وفهم وتثقف قبل أن يتقدم للعمل العام والمجال العام كما قال عمر..

سواء تقدم لخدمة نفسه وطلب(المكانة) و(الوجاهة)..ولا عيب، أو لخدمة الناس وطلب الرحمة والمغفرة والأخرة.                                                                                                         

ماذا قال عمر في ذلك؟  قال أربع كلمات في غاية البساطة والسهولة والإعجاز: (تفقهوا قبل أن تسودوا).     

وأروع تعليق على هذه الجملة المانعة الجامعة كان من سفيان الثوري (ت778م) ..

إذ قال: لأنهم لو تفقهوا ما طلبوا السيادة ولا الرياسة ولا تنافسوا عليها..!! والتفقه هنا ليس فقط ما هو مشهور في العلوم الدينية ..أنما قريب جدا مما قاله عمر لأبى موسى ..رضى الله عنهما ... الفهم الفهم.

 ***********

هذا الكلام كله لنا ولمن هم مثلنا .. ممن رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا .. 

أو حتى لغيرنا ممن لا يؤمن ولا يرضي.. لكنه يعيش ويدع الأخرين يعيشوا مثله ومعه بهدوء وتفهم وتسامح ولديه من مجالات الانشغال في الحياة والعطاء ألف مجال ومجال.. ونعرف نماذج محترمة وجميلة تجسد هذه الصورة وأحدثوا وقعا وتركوا أثرا لا يٌنسى..

لكن ماذا عن(غير المتدين) الذى يصحى وينام ولا شاغل له إلا الدين والمتدينين؟ أليست هذه ظاهرة تدعو للتوقف والتساؤل؟ أنت أصلا غادرت هذا الموضوع أو هجرته أو أي وصف تختاره لنفسك، شاغل نفسك به ليه؟ وشاغل نفسك بالمهتمين به ليه؟ الحياة مليئة بمئات الموضوعات التي تستحق طاقتك العقلية المرعبة ذات الأوتار الفائقة أو قدراتك الفكرية الهائلة ذات التفاصيل المطلقة.                                     

أنت أصلا ترى أن الإيمان والدين (ظواهر إنسانية) لا تستحق كل هذا الاهتمام والتركيز من الناس الطيبين. وبالتالي فطبيعي ألا تستحق أصلا اهتمامك وانشغالك بها ليل ونهار ..إلا اذا كان(الموضوع خارج أرض الموضوع)كما يقول عمنا  الشاعر الكبير محمود درويش رحمه الله(ت2008م) .. وطبعا ما فوق الطاولة شيء وما تحت الطاولة حمادة تاني خالص. 

*******

تحكى لنا القصص الطريفة أنه في الثلاثينيات من القرن الماضي ظهر في مصر عالم رياضيات ملحد عاش في روسيا اسمه (إسماعيل أدهم) وكان ابن ناس طيبين عاش في ظروف اجتماعية مرتبكة قليلا .. وتولى زوج عمته تربيته بعد وفاة والدة ..

وكان من النوع الذى يعرف ما يرفضه ولا يعرف ما يريده ..وفى ناس كتير كده بالمناسبة ..وسنرى كيف مزق نفسه على مسمار عقلي من صنعه وبيده وانتحر في أخر المطاف سنة 1940م. 

تقول الحكاية أن د/احمد زكى أبو شادي (ت1956م) الشاعر والطبيب المشهور وأحد كبار مؤسسي جماعة أبوللو الشعرية قال محاضرة ثقافية في شهر رمضان سنة 1937م واعلن فيها: أن لديه مشروعا فكريا يقوم على التوفيق التام بين الإسلام وحقائق العلم.. 

أدهم ضايقته جدا هذه المحاضرة من عالم كبير وشاعر شهير ومن الشهرة والمكانة بما يغمر الضوء أكثر مما يغمره الضوء كما يقولون فكتب كتيبا صغيرا ردا عليه عنوانه (لماذا أنا ملحد؟)

وقال صراحة أنه يرد به على ادعاءات د/ أبو شادي .. الحاصل أن د/ أبو شادي رحمه الله رد عليه بكتيب بعنوان (لماذا أنا مؤمن؟) وقال فيه إذا طبقنا قانون المصادفة الذى يستند عليه أدهم كما يزعم فسوف يصبح دربا من الفوضى التي ينقصها النظام الحقيقي.. الذى هو قائم بالفعل في الكون ..الأمر الذي يجعل نظريته أقرب إلى اللغو والسفسطة منها إلى العلم. 

دعونا هنا نتوقف لحظة عند هذا المشهد الواسع الذي من اتساعه تدخل فيه رئيس الوزراء وقتها مصطفى النحاس رحمه الله (ت 1965م) والأزهر وكانت الحركة الإسلامية في أقوى أوقاتها كلها في أي وقت(1937م).  

 لماذا لم يتقدم أحد بفتوى تهدر دم(أدهم) ..!!؟؟ أو ضربه بسكينة في يده التي كتبت إبداعه. !؟؟ أو اغتاله من على موتوسيكل!؟؟ وكانت الاغتيالات السياسية وقتها حوادث يومية؟                                                       

هل يملك أحد إجابة على هذا (السؤال الوجيع)؟ أم نلجأ لما قاله أستاذ أساتذة العلوم السياسية في كل وقت د/ حامد ربيع رحمه الله (ت1989م)و وقاله قبل وفاته المريبة بشهور ..محذرا من اختراق واستخدام الصهيونية العالمية للتيارات الدينية! 

وكلامه منشور ومتاح وكتبت عنه من قبل بعنوان (أخطر ما قال د/حامد ربيع) لأنه كان تكلم وقتها أيضا عن عمالة الأسد والعلويين في سوريا للصهيونية وموضوعات أخرى كثيرة بالغة الأهمية والخطورة.

*******

واقع الحال أننا سنجد صفتي (اللغو والسفسطة) وبالمرة (الهجص) سنجدهم ملازمين لكل (غير متدين) يتفرغ للهجوم على الدين والمتدينين.

أحصر كل الأسماء _ولا أستثنى أحدا_ التي اشتهرت بهذه الصفة في الثلاثين سنة الأخيرة وركز قليلا مع كل واحد في مسار حياته الاجتماعي والمهني.. ستجد أن حياتهم ومواقفهم متصلين بدرجة مذهلة وستجدهم بالفعل يتميزون باللغو والسفسطة والتفاهة البالغة.

وما كان واشتهارهم إلا من حالة الانحدار العام والهبوط العام..الأمر الذى جعل من عورهم في غاية التبصر.. وسط حالة (العمى العام) على رأى الروائي البرتغالي الكبير جوزية ساراماجو (ت2010م) والذي له رواية مشهورة بنفس الاسم (العمى) ونال عنها جائزة نوبل سنة 1998م.

*******

دعونا نختم بتلك العبارة الجميلة للدكتور الجميل محمد كامل حسين أستاذ العظام الشهير رحمه الله (ت 1977م) واصفا بها (الضمير) في روايته الوحيدة (قرية ظالمة): بأنه قبس من (نور الله) ولا يكون للناس من هدى بغيره..  وبدونه كل فضيلة تنقلب نقصا .. وكل خير يصبح شرا.. وكل عقل يصبح خبالا. 

وكل نفس بما كسبت رهينة مرتهنة مسؤولة محاسبة.