عبد الخالق فاروق يكتب: الاقتصاد المصري.. بين القدرات الكامنة والعجز المزمن (2-3)

الدكتور عبد الخالق
الدكتور عبد الخالق فاروق

القدرات والإمكانات الكامنة:

قليلة هي الكتابات التي تناولت ظاهرة الفائض الاقتصادي، ووسائل استنزافه أو الاستفادة منه، وقد برز في حقبة الخمسينات ثلاثة من أهم الخبراء الاقتصاديين الذين أسسوا لمفاهيم الفائض الاقتصادي بصورته العلمية الحديثة، وهم: الكاتبان الأميركيان «بول أ. باران» و«بول م. سوزي» في كتابهما الرائع «رأس المال والاحتكاري»، عن وسائل استنزاف الفائض الاقتصادي في النظام الأمريكي، وفي النظام الرأسمالي عمومًا، بينما أسس المفكر الاقتصادي الفرنسي «شارل بتلهايم» في محاضراته التي جمعها وترجمها الدكتور إسماعيل صبري عبد الله في كتاب بعنوان «قضايا التخطيط والتنمية»، وصدرت عن دار المعارف عام 1965، عدة مفاهيم جديدة عن «الفائض الاقتصادي الفعلي» و«الفائض الاقتصادي الاحتمالي»، و«الفائض الاقتصادي الكامن»، هذا في الوقت الذي كان فيه الكُتاب والمفكرون الاقتصاديون في الشرق والغرب قد استغرقوا في شرح عمليات النهب الاستعماري واستنزاف الفائض الاقتصادي للشعوب النامية، عبر وسائل التجارة غير المتكافئة من ناحية، أو تحركات رؤوس الأموال من ناحية ثانية، وكذلك عبر مصيدة الديون والإقراض من ناحية ثالثة.

وعلى الرغم من أن خبراء معهد التخطيط القومي في مصر، قد قاموا بدراسات جادة حول صور وأحجام الفائض الاقتصادي المستنزف في بعض قطاعات الاقتصاد المصري، مثل القطاع الزراعي، والقطاع الصناعي، وغيرهما، فقد ظلت هذه الدراسات ذات طبيعة جزئية وقطاعية، ولم تضمها رؤية ومنهجية قائمة على المعايير الكلية لمفاهيم الفائض الاقتصادي، وعلاقتها بالنهب والفساد.

على أي حال، فإن ما نود التأكيد عليه هنا، أن الاقتصاد المصري والمجتمع المصري قد ضاعت منهما فرصة حقيقية للتنمية والتحديث بعد عام 1974؛ خصوصًا بعد أن لاحت في الأفق موارد جديدة لم تكن معروفة بهذا المقدار في العقود السابقة.

يكفي أن نشير إلى أن التدفقات المالية والنقدية التي اندفعت كالسيل في شرايين الاقتصاد المصري منذ عام 1974 حتى فبراير عام 2011، قد زادت على 850 مليار دولار، سواء كان ذلك في صورة تحويلات للعاملين المصريين في الخارج (160 مليار دولار)، أو إيرادات البترول والغاز (60 مليار دولار) أو دخل رسوم المرور في قناة السويس (60 مليار دولار)، أو دخل السياحة المسجلة فقط (60 مليار دولار)، بالإضافة بالطبع إلى المساعدات والقروض العربية والأميركية والأوروبية واليابانية وغيرها. مثلت إضافة هائلة، بددت معظمها في مسارب وقنوات غير تنموية.

ولم تكن هذه هي القدرة الوحيدة التي جرى تبديدها في مسارب استهلاكية و«فشخرة» استثمارية حكومية، كما يجري حاليًا منذ عام 2014 حتى اليوم، وإنما تعدتها إلى مصادر أخرى للموارد والقدرات، جرى إهمالها أو نهبها لصالح فئات محددة من كبار رجال المال والأعمال والشركاء الأجانب. 

ومنها على سبيل المثال وليس الحصر: 

  1. في قطاع البترول والغاز، جرت عملية تنازل مستمرة ومنتظمة عن بعض الحقوق والمصالح المصرية، لصالح الشركاء الأجانب والمستثمرين المصريين والعرب (نسبة الأتاوة – بند استرداد التكاليف – توزيع حصص الإنتاج – حساب الأصول – نمط التوظيف الاستثماري لأموال هيئة البترول والشركات العامة فيه... إلخ)، وهو ما تناولناه تفصيلًا في كتابنا «أين البترول والغاز المصري؟» الصادر عن هيئة الكتاب عام 2017، ومن شأن إعادة هيكلة هذا القطاع إداريًا وماليًا وتشريعيًا وتنظيميًا، أن يتوفر للخزانة العامة ما يقارب 50 مليار جنيه إضافية بأسعار اليوم، نسترجع بها للقطاع حيويته وقوته التي بددتها سياسات تشغيل أقل ما توصف بها أنها فاسدة وضارة.
  2. في قطاع الثروة المعدنية الذي تُرك نهبًا لحفنة من المقاولين المصريين والعرب والأجانب، مع كبار رجالات الإدارة المحلية في بعض المحافظات، بحيث ضاعت على مصر فرصة حقيقية للتنمية وتوفير فرص عمل إضافية للشباب، من خلال تصنيع مكثف لمخرجات المناجم والمحاجر، بما يمكننا من زيادة الإيرادات المحققة منه بأكثر من 50 مليار جنيه أخرى، ولا يحتاج الأمر منا سوى خطة لإعادة هيكلة هذا القطاع، وإنشاء وزارة مستقلة له، ووضع خطة تصنيع حقيقية فيه.
  3. أما أموال الصناديق والحسابات الخاصة التي تتحرك فيما يمكن أن نطلق عليه «الموازنات السرية»، أو «الموازنات الموازية»، والتي تشتمل على مئات المليارات من الجنيهات بالعملات المحلية والأجنبية سنويًا، يقدرها بعض الخبراء بأكثر من 500 مليار جنيه (إيرادًا ومصروفًا)، تتحرك بعيدًا عن أعين صانع السياسة الاقتصادية والمالية في البلاد.
  4. الفوائض والمدخرات المالية المتاحة لدى الأفراد والقطاع العائلي، والتي تُركت نهبًا للسلوك الاستهلاكي، بعد أن انسحبت الدولة من التنمية والتخطيط، فاتجهت هذه الفوائض والمدخرات إلى شراء الفيلات والقصور والشاليهات السياحية الفاخرة compounds، فبلغ حجم مشتريات المصريين من هذه الوحدات منذ عام 1980 حتى عام 2011 نحو 415 مليار جنيه (أي ما يعادل 180 مليار دولار بأسعار الصرف السائدة خلال تلك الفترة)، وكان من الممكن تشجيع هذه الأسر والأفراد لاستثمار جزء ولو بسيط من هذه الفوائض في صورة شراء أسهم لشركات صناعية أو زراعية، لو توفرت للدولة رغبة وقدرة على التخطيط والتنمية.
  5. يضاف إلى ذلك ما توفر من معلومات عن حجم إيداعات المصريين في البنوك خارج مصر، والتي قدرتها الاستخبارات المركزية الأميركية CIA في أعقاب هجوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بنحو 160 مليار دولار، وهي تقارب حاليًا أكثر من 250 مليار دولار، بحيث يمكن لو توفرت قيادة سياسية جادة ومحل ثقة في البلاد وبين المصريين جميعًا، أن تطلب منهم المشاركة سنويًا، بتغذية حساباتهم المصرفية داخل مصر بألف دولار فقط، وبصورة دورية، لتحققت مصادر إضافية من النقد الأجنبي تزيد على 7 مليارات دولار سنويًا، تكفينا عناء الاستجداء من بعض الدول العربية أو مؤسسات التمويل الدولية، كالبنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، ولنا في تجربة الاكتتاب في مشروع تفريعة قناة السويس الجديدة عام 2014 عبرة وعظة.
  6. يضاف إلى ذلك وقف حالة السفه في الإنفاق الحكومي، وخصوصًا على مكاتب الوزراء والمسؤولين في كافة الهيئات والمحافظات، وشراء السيارات الحكومية، وغيرها من مظاهر الإنفاق غير الرشيد، وبناء القصور وأكبر المساجد والكنائس وأطول الأبراج، وأكبر الثريات!

هذه بعض من كثير جدًا من أوجه إهدار الموارد وسوء إدارتها.

فكيف نعيد بناء مصر على أسس جديدة؟