فراج إسماعيل يكتب: صراع الجنرالين.. إلى أين؟

ذات مصر

هناك مقولة قديمة عن كثرة الانقلابات العسكرية في السودان.. أن أول "عسكري" يصل الإذاعة، سيقتنص السلطة.

الآن تبدلت المقولة إلى أن من يحتل "الخرطوم" سيحكم السودان بدون حاجة إلى الإذاعة أو التليفزيون الذي توقف عن البث.

عدة انقلابات قام بها الجيش منذ تأسيسه عام 1956، ضد حكومات ديمقراطية منتخبة، لم تسفر عن حاكم رشيد فيما عدا المشير عبدالرحمن سوار الذهب الذي يشكل استثناء لا سابق أو لاحق له، بزهده في السلطة وتسليمه الأمر لحكومة مدنية منتخبة.

عندما التقيت جعفر نميري قائد الانقلاب المايوي عام 1969، أثناء إقامته في القاهرة عقب انقلاب وزير دفاعه سوار الذهب عليه، اعتبر نفسه ضحية "طمع العسكر في السلطة" رغم أنه سبق واغتصب تلك السلطة وحكم باستبداد وديكتاتورية مطلقتين، وأن سوار الذهب أعاد السلطة لرجال السياسة بالانتخاب.

وهكذا يبدو صراع الجنرالين.. عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو "حميدتي".. رئيس مجلس السيادة ونائبه.

كل منهما يريد السلطة ويعتقد أنها حق شرعي له، وأن هذا الحق دونه تدمير السودان الموجوع بمشاكله الاقتصادية الخانقة وصراعاته الاجتماعية والقبلية والإثنية والانفصالية.

الرجلان يمثلان صورة كاريكاتورية بالغة البؤس ومثيرة للسخرية. حميدتي تحول إلى جنرال برتبة فريق أول بقرار من الرئيس المخلوع عمر البشير، رغم أنه لم ينل أي تعليم أكاديمي، أو حتى تعليم أولي. 

مجرد تاجر إبل متنقل كون ثروة منها ومن أعمال غير شرعية، وحراسة القوافل، واعتمد على قبيلته "الرزيقات" ذات الأصول العربية في تكوين ميليشيا "الجنجويد" التي دعمها البشير وأمدها بالسلاح والعتاد والأموال، لتحارب القبائل الأفريقية المتمردة والمهمشة في دارفور بالوكالة عن الدولة، مرتكبا مجازر واسعة من القتل والاغتصابات أدانتها المنظمات الإنسانية.

ربطته في تلك المرحلة علاقة بالجنرال الآخر "البرهان" الذي كان مفتشا على القوات المسلحة، وزاد تقاربهما بعد اشتراكهما معا في انقلاب 2021 ضد المكون المدني، وبذلك أصبح تاجر الإبل وقاطع الطريق نائبا لصديقه القديم في قيادة السودان.

قوات الدعم السريع التي نشأت من ميليشيات الجنجويد، تحولت إلى نسخة سودانية من جماعة "فاجنر" الروسية بذكاء فطري خارق من حميدتي. استدعاه البشير لينقذه بقواته ويخمد الانتفاضة بحكم أنه منحه رتبة "فريق أول"، فساعد في الانقلاب عليه.

الإمام صادق المهدي، رئيس حكومات ديمقراطية سابقة، وزعيم حزب الأمة، قبل مغادرته القاهرة عائدا لبلده، زرته في شقته بمدينة نصر برفقة صديق صحفي سوداني. ظننته متفائلا باستعادة قريبة أو بعيدة للديمقراطية في السودان. لكنه ببعد نظره وتفكيره المرجعي، صدمني برؤية متشائمة، تحققت عندما اعتقله البشير لمدة شهر بسبب انتقاده لتجاوزات قوات حميدتي في دارفور. 

صداقة حميدتي للبرهان لم تمنعه من الخروج عليه في احتراب يدمر الخرطوم ومقدرات السودان، ويفكك بنيته الهشة.

ولأن الجنرال الآخر ليس أقل منه تمسكا بالسلطة، لم يستسلم، تتحكم فيه نظرة استعلائية، فهو جنرال من حضن وقلب المؤسسة العسكرية، تعلم وعمل فيها، بينما حميدتي دخيل عليها بلا أي مؤهلات عسكرية أو أكاديمية. 

وكانت تلك هي عقدة نقص حميدتي تجاه صديقه القديم. ومع ذلك صار لاعبا رئيسيا إقليميا ودوليا. 

قيل إن أمريكا استعانت بقوات الدعم السريع "فاجنر السودانية" في انقلاب تشاد لضرب النفوذ الفرنسي، لكن فرنسا أجهضته، وفي انقلاب أفريقيا الوسطى الذي لم يستمر طويلا، وكان وراء مشاركة السودان في قوات التحالف العربي في اليمن بعناصر من مجموعته. وتردد على نطاق واسع أنه أرسل جنوده إلى حروب ليبيا.

ورغم ارتكابه جرائم ضد الإنسانية يندى لها الجبين في دارفور، اتفق مع الاتحاد الأوروبي على قيامه بمنع الهجرة غير الشرعية من إريتريا وإثيوبيا وغيرهما.

نفوذ داخلي وإقليمي ودولي جعله واحدا من كبار أثرياء العالم بثروة طائلة، ساعده على ذلك سيطرته على مناجم الذهب وتصديره إلى الخارج بما قيمته 16 مليار دولار.

نفوذه الداخلي استمده من توسيع التجنيد في قواته من ولايات هشة وقبائل حاقدة على نفوذ الخرطوم وولايات الوسط النيلي، والرواتب المرتفعة التي يدفعها، وشبكة سيارات الدفع الرباعي الحديثة.

جنرال بتلك المواصفات ليس سهلا استبعاده أو دمج قواته في الجيش حتى لو كان ذلك ضمن بنود الاتفاق الإطاري للفترة الانتقالية الذي وقع عليه.

علاقاته الإقليمية والدولية المتشابكة خلقت طموحاً سلطوياً لا حدود له. حاول مع البرهان لتمديد مدة الإدماج من عامين إلى عشرة، حتى لا يصبح عاريا إذا تخلى عن ظهيره المسلح.

تحول الخلاف إلى اختلاف.. ثم إلى غزو قواته للعاصمة صباح السبت الماضي واستيلائها على القصر الجمهوري ومقرات استراتيجية.

اختار مدينة "مروي"، نقطة انطلاق لاقتتاله ضد البرهان، باستيلائه على قاعدتها الجوية.

إلى أين يمضي الصراع؟.. لا أظن أن قوات الدعم السريع ستخرج مهزومة بسهولة، فهي مائدة إقليمية ودولية مهمة.

عول البعض -وأنا منهم- على نفاد الإمداد والتموين، لكن انتشارهم في معظم مدن السودان وولاياتها، وعجز القوات المسلحة على بسط سلطتها على تلك المساحة الشاسعة، يجعل من الإمداد والتموين مسألة في متناولهم. 

حدود السودان الدولية الواسعة ووقوعها بجوار عدة دول، لحميدتي نفوذ وأتباع فيها، تجعل منه قوة لا يستهان بها ولا يمكن التنبؤ بقدراتها الحقيقية.

ولا يضمن البرهان انتصار جيشه المحترف بترسانته من الدبابات والطائرات بأسلوب الحروب الكلاسيكية.

حتى العاصمة لا يضمن السيطرة عليها في مواجهة عناصر تنتهج حرب العصابات ومعارك الشوارع التي تعتمد على الخفة والسرعة والتمترس بالمباني، والقتال بمجموعات صغيرة.

تبعا لذلك يظل سؤال: "أين ينتهي صراع الجنرالين" عصياً على الإجابة إلى حين.