د. هشام الحمامي يكتب: جمال حمدان في ذكراه رسائل القلق والخطر

ذات مصر

لا يمكن أن يمر 17 إبريل دون تذكر جمال حمدان (1928/1993م)..ليس لابتعاث ذكراه وما تحمله من معانى وأفكارفقط وهى فى كل الأحوال مدونة في كتبه وموصوفه في كتابات تلاميذه من الباحثين والمتخصصين ..ولكن لتأمل الحاضر الذى نحياه وذاك المستقبل الذى حذرنا مما سيحمله لنا،  لو لم ننتبه بالقدر الكافي..                       

 وهنا تتجاوز عبقرية الإنسان حدود العمر المعدود، لتقف على مشارف الزمن كله ماضي وحاضر ومستقبل ..

ومن الأهمية بمكان لنا كمصريين أن نتأمل ونتذكر حادث موته في حد ذاته ..والموت وان كان هو(الحتم المؤجل) لنا جميعا..

إلا أنه أحيانا يحمل في حدوثه ما هو أكثر من الغياب ، مما يستدعى الوقوف والتنبه.                     

  إذ يرى كثير من المتابعين أن وفاة الراحل الكبير.. كانت عملية مخابراتية بامتياز..ولم تكن طبيعية أبدًا ..

كانت مخيفة وغريبة ..الروايات التى تناولت وفاته تقول إنه توفى إثر حريق نتج عن انفجار أنبوبة البوتجاز..

حدث هذا في شقة شديدة البساطة والمفروشات وبها عدد من المخارج..

 النيابة رفضت التحقيق فى الحادث لعدم وجود أدلة مادية..هكذا قالوا لإخوته وأغلق الموضوع تماما .. كان هذا عام 1993 / فى عز قوة الأجهزة الأمنية وأجهزة التحقيق أيام الرئيس الأسبق حسنى مبارك(ت/2020م)                

كيف تمت (الغطرشة) بهذه السهولة على موت شخص بهذه القيمة الوطنية والاستراتيجية ؟؟.. وبكل هذا الإهمال والتجاهل الذى يصل إلى حد النفور ولا أقول وصف آخر.. ما المقصود منه؟.                                                                                              

***

أكثر ما تركه جمال حمدان من علم يتجاوز الحالة الأكاديمية التخصصية.. ويضعه في مصاف المفكرين العظماء.. وبالتالي فغير مقبول أن نقول أنه مثل أي (دكتور جغرافيا )عاش ومات..                                           

بدورنا لا نملك إلا التذكير الدائم بظروف وفاة الرجل كلما أتت ذكراه العطرة.. لأن من أرتكب تلك الجريمة لم يكن يريد مجرد تغييب الإنسان فيه .. بل كان يريد عقاب المفكر والعالم ليكون عبرة، لمن يقترب من الموضوعات التي أقترب منها الرجل ..وقل ذلك عن كل من مات من العلماء في ظروف غامضة .. د/ حامد ربيع أستاذ السياسة الكبير و مٌنشىء نظرية الأمن القومي العربي (ت/ 1989).. د/ سعيد بدير المهندس العسكرى الكبير وعالم الأقمار الصناعية العالمى (ت/1989م) ..الخ

***

ما تركه جمال حمدان عن علم المكان وعلم الزمان (الجغرافيا والتاريخ) يتجاوز ما هو علمي بحت ويقترب كثيرا مما هو منهجي واستراتيجي .. الجغرافيا ليست العلم بالأرض فقط .. والتاريخ ليس العلم بالماضي فقط _.

ما تركه الرجل كثير ، ومهم للغاية.. وأهميته مستمده من أنه يتحدث عن ثوابت استراتيجية راسخة لا عن أشياء عابرة ..ولا أتصور أن هناك (وطني صادق) يعمل بالعمل العام.. والعمل السياسي تحديدا لم يقرأ جمال حمدان ولم يتوقف عند أراؤه واستنتاجاته ..

 

جمال حمدان

***

وكما سأظل أُذكِّر بظروف وفاة الرجل.. سأظل أيضا أُذكِّر بفكره وعلمه وأثاره التي تركها حتى ينتبه المثقفون والسياسيون إلى أهمية أن يتسلحوا بالفكر الوطني الضخم الذى تركه جمال حمدان..

كان العلامة الراحل يعتبر أن (الصهيونية) والتمزق العربي /وضعف العالم الإسلامي /وفقدان العدل الاجتماعي والطغيان السياسي ..هم ألد أعداء مصر..!؟/

وكانت قضية فلسطين هي قضيته الأولى وشغلة الشاغل، وصرح بأن الكارثة التي تعرضت لها فلسطين على يد الصهيونية هي سابقة ليس لها مثيل قط في تاريخ العالم الحديث ولا العالم الإسلامي ولا العالم الثالث، وكان يرى أن الخطر لا يستهدف الأرض المقدسة في فلسطين فقط وأن التهديد لا يقتصر على العالم العربي وحده وإنما يمتد إلى العالم الإسلامي كله..

 

وكان دائم التذكير بأن (الصهيونية اليوم هي أكبر خطر يواجه العالم العربي) وأن تحرير فلسطين هو وحدة العالم الإسلامي السياسية وأن وحدة العالم الإسلامي إنما هي فلسطين.

***

من عام 1975-1984م تفرغ تماما لعمله العظيم (شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان)..وتناول فيه خصائص الشخصية المصرية وعلاقة تلك الخصائص بجغرافية مصر ونيلها العظيم.

 

***

مبكرا جدا أبدى خوفه من تراجع الزراعة .. التي تعني الحياة للبلاد .. ومن غير الزراعة ستتحول مصر (الى مقبرة بحجم الدولة) ....!!!

لأن مصر بيئة جغرافية مرهفة وهشة لا تحتمل العبث ولا تصلح بطبيعتها للرأسمالية المسعورة الشرهة وقال أن مقتل مصر _معاذ الله _ فى تحولها إلى الرأسمالية. بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

 

مصر تتحول لأول مرة من (تعبير جغرافي إلى تعبير تاريخي) بعد أن ضاقت أمامها الخيارات.. ليس بين السيء والأسوأ .. وإنما بين الأسوأ والأكثر سوءا .. ويصف بقاءها واستمرارها بأنه نوع من القصور الذاتي... هكذا قال لنا حمدان .. 

من الثوابت التي أشار اليها العلامة الكبير .. الوحدة (الجغرافية والعضوية والحضارية) لهذا الوطن ..ساخرا مما يصفه بمشاريع إسرائيل والصهيونية والغرب لتفتيت مصر..  ويعتبر هذا نوعا من السفه والجنون..

قائلا مصر أقدم وأعرق دولة في الجغرافيا السياسية للعالم .. وغير قابلة للقسمة على اثنين... إنها نبت طبيعي بحت.

***

كلمات عظيمة كتبت بإحساس أعظم منها .. وهكذا بالفعل عاش ومات جمال حمدان..                                      

 بهذا الفكر عاش وبهذا الإحساس مات ..

 

الشرح عنه لا يكفى .. و الأشياء لن تتغير  .. وكل شيء سيبقى على حاله.

 

يقولون إذا كانت كلماتنا هي أزهار عقولنا .. فإن أفكارنا هي ثمار أرواحنا ..وهو ما كان من الرجل في حياته وفيما تركه لنا بعد حياته.

رحم الله جمال حمدان.. الرجل الذى لم يسم إلى سمائه عالم مثله.. في مثل تخصصه .. و بارك الله في ما تركه لنا من علم ينتفع به كل يوم  فيما هو بعيد كل البعد عن لعبة الشعارات الكبرى ..