يحيي حسين عبدالهادي يكتب: التصالح مع أصحاب المعالي اللصوص

ذات مصر

 (للمرةٍ الأولى في التاريخ الحضارى الحديث في مصر والعالم يَصدُرُ مِثلُ هذا القانون الشاذ عن النظام العام والعرف الدستورى والمناقض لمبادئ إنشاء الدولة الحديثة)-  الفقيه القانونى الجليل أ.د/ على حامد الغتيت.
لا أتحدث عن موضوعٍ قديمٍ، وإنما عن أحد القوانين التي تَحكُمُنا اليوم إلى أن تتطهر مصر من هذه الفضائح ذات يوم .. القانون المشار إليه والذي يضاف لما صِرنا ننفرد به عن باقي الأمم كأكبر مسجد وأعلى منبر وأكبر سجن وأطول مائدة رحمن .. هو القانون رقم (16) المُعَدِّل لقانون الإجراءات الجنائية، الذي صدر في سنة ٢٠١٥ .. وهو قانونٌ (تاريخي) بمعنى الكلمة، فقد أجاز لأول مرةٍ فى التاريخ المُعاصر ما ظل محظوراً دستورياً .. وهو إجازةُ التسوية الودية والصلح مع مُرتكبى جنايات الاعتداء على مصالح الدولة المنصوص عليها فى قانون العقوبات وهى:
جرائم اختلاس الأموال العامة والخاصة والاستيلاء عليها بغير حق/ جريمة الغدر أو طلب أو أخذ ما ليس مستحقاً من غراماتٍ وضرائب/ جرائم محاولة التربح من أعمال الوظيفة والإخلال بتوزيع السلع/ جرائم إحداث الضرر بالأموال والمصالح عمدًا بالإهمال/ جرائم الإخلال بتنفيذ بعض العقود الإدارية وعقد المقاولة/ جريمة استخدام العمال سُخرةً/ جريمة تخريب الأموال الثابتة والمنقولة.
أما كيف يتم هذا الصلح رغم وجود أحكامٍ قضائيةٍ تُدينُ السادة اللصوص الهاربين فتلك أُمُ الكوارث، إذ يتم بواسطة لجنةٍ من (الخبراء)  يختارهم رئيس الوزراء، وتُحَرِرُ اللجنةُ مَحضراً يُوقعه أطرافُه (ومن بينهم بالطبع مُحامى السيد اللص الهارب) ويُعتبرُ اعتمادُ المَحضَرِ مِن مجلس الوزراء توثيقاً له وبدون رسوم .. ويصبح لهذا المَحضَرِ قوةُ السَنَد التنفيذى .. ويُخطِرُ مجلسُ الوزراء النائبَ العامَ سواء كانت الدعوى قيد التحقيق أو المحاكمة، فتنقضى الدعوى الجنائية وتأمر النيابة العامة بوقف تنفيذ العقوبات المحكوم بها على المتهمين طالما لم تصبح باتةً بحُكمٍ نهائىٍ من محكمة النقض.
أى أن هذا القانون يُقَلِّصُ اختصاص القضاء الجنائى الأصيل، فينحسر بمقتضاه كاملُ اختصاص جرائم المال العام عن محكمة الجنايات، بل ويسقط محكمة النقض فى اختصاصها مُنفردةً فى إصدار الأحكام القضائية الباتة فى تلك الجرائم .. وبمقتضاه أصبح للسلطة التنفيذية القولُ الفصلُ فى جرائم المال العام لِتَحِّل بذلك مَحل القضاء المستقل .. وبمقتضاه تُصبحُ قراراتُ هؤلاء (الخبراء) ومَحاضرُهم المُعتَمَدةُ من السلطة التنفيذية أقوى من محكمة النقض ذاتها.
فى مصر أم العجائب، لو طُلِب من اللصوص المستفيدين من هذا القانون أن يضعوا لأنفسهم قانوناً لتَحَرّجوا أن يفعلوه بهذه الأريحية وهذه البجاحة.
ورغم ما بهذا القانون من عوارٍ، إلا أنه لم يكن يعفي من العقوبة شركاءَ اللص (كالموظف العام الذى سَهّل له السرقة مثلاً)، فتم تعديله بعد عدة أسابيع ليشمل بعفوه كل العصابة، فيعود كلٌ مِن أفرادها (بالقانون) خالياً من الذنوب كيوم ولدته أُمُهُ .. يُخرجُ لنا لسانه .. ويمضى واثقاً نحو البرلمان أو الوزارة (أول من استفاد بهذا القانون تم تداول اسمه مؤخراً لرئاسة الوزراء!).
الشئُ اللافِتُ أن كل هذا التدليل الإجرائى يتركز على لصوص المال العام فقط ولا يمتد للصوص المال الخاص (كَقُطّاعِ الطُرُق ولصوص السيارات والمساكن وحقائب السيدات) مع أن القانون الأصلى يُساوى بين اللصوص .. أم أن التمييز الطبقى حتى فى ذلك؟!