علي الصاوي يكتب: أين ذهب المثقفون؟

ذات مصر

في النصف الثاني من القرن العشرين كان للمثقفين دورا كبيرا في صياغة المشهد الفكري والسياسي في مصر فنشطت حركة التأليف وكثرت المعارك الأدبية والسجالات السياسية وتناغم المجتمع مع تلك النقاشات الفكرية والاشتباكات الوطنية، فكان الأدب في تلك الفترة معِينا ينهل من عذوبته الفن ويسير على نهجه الناشئة، فأنتجت تلك القامات الثقافية أعمالا غزيرة فكرية وأدبية وفنية صاغت شكل الحياة السياسية والاجتماعية في مصر فترة من الزمن وجعلت منها بؤرة ثقافية لا تخبو فيها نيران الإبداع، كانت مصر آنذاك منارة الثقافة التي ملكت ناصية الفِكر، فأين ذهب المثقفون الآن؟

يقول عالم الاجتماع فرانك فوريدي: "إن المثقف الحقيقي أصبح كائنا مهددا بالانقراض بسبب طوفان مدعي الثقافة الذين هيمنوا على الساحة الثقافية دون محتوى أخلاقي على الرغم من أنه يفترض أن الثقافة عالية الأداء والجودة تتطلب بالضرورة مشتغلين رفيعي المستوى لا أن تتعرض للترهل بسبب اندفاع الأشخاص العاديين لميادينها الفكرية والأكاديمية". 

كلمات فوريدي تُشخّص أزمة المثقف الحقيقي والغربة التى يعيشها في محيطه، بسبب اتساع الساحة للأقل فهما وإبداعا وتصدرهم المشهد على حساب الراسخون في الفكر والثقافة أصحاب المشاريع الحقيقية المؤثرين في بنية المجتمع الفكرية، فتعطلت ملكاتهم وتكلست نفوسهم وسط بضاعة مزجاة من زبد منتفش يُرَوّج له البعض، ممن يستسيغون الرداءة ويشجعون التسطيح ويثورون على كل ما هو جاد، فاعتزل المثقفون المشهد إيثارا للسلامة وثأرا للكرامة، أفضل من أن يكونوا جزءا من مشهد ثقافي متدني، فضلوا الاحتفاظ بمكانتهم وقيمتهم على الهامش بدلا من أن يكونوا مُهرجين مُقلدين في المتن. 

لا يوجد تطرف حيث توجد ثقافة ولا توجد ثقافة حيث يوجد تطرف، صنوان لا يجتمعان ويفترقان عند قنطرة المثقف الحقيقي الذي يُغطى احتياجات المجتمع من فكر ووعي حاملا مشاعل الإفاقة لإنارة عصره وتحطيم قيود الجهل وأغلال العادة، فحين يغيب المثقف تغرب شمس المعرفة ويقل زاد العقل ويطفو على السطح مثقفون بلا ثقافة، يُكثرون من كلام منمق يملأ البطن ولا يُغذّي العقل، يثير الجدل ولا يبث الأمل، فمن هو المثقف؟

المثقف الحقيقي هو الذي لا ينفصل عن قضايا مجتمعه ويقدم النصح والمشورة لذوى السلطة إما بالإشارة أو العبارة، غايته الارتقاء بمستوى المجتمع وممارسة دورا حيويا في تكوين وبناء الإيدلوجيات وفي تدعيم الموافقة والقبول والحفاظ على تراث المجتمع الثقافي والقيمي، وأن يكون مثقفا عضويا لا حارسا أو انتلجنسيا على حد تعبير أنطونيو غرامشي صاحب كتاب إشكالية المثقف، وألا يكون متعالي الفكر ينظر إلى المجتمع من صومعة عاجية منعزلة عن الواقع. 

يقوم المثقف بزعزعة الفكر السائد وتحريك الماء الراكد وتنقيته من الشوائب والطفيليات، وتقديم حلول عملية ومدروسة لفهم الواقع وتغييره، فيعظّم النافع ويواجه السقيم، وأن يُشكل تدخله فارقا في فكر المجتمع ودفعه للأمام، فكل تغيير في الشكل لا يخدم مضمونا فكرياً أو اجتماعيا، يظل شكلا عقيما لا نفع فيه،  على ألا يتجاوز في تدخله ونقده تخوم البعد الأخلاقي، فالمثقف منظومة متكاملة من الفهم والعلم والأخلاق، يتحرك بوعي فكري لا بانفعال وجداني، فيُحسن اختيار المفردات ويُعدد أشكال التعبير. 

ليس كل متعلم مثقف لكن كل مثقف متعلم، فالثقافة ليست مرادفا للتعليم، وكل متخصص لا يعرف شيئا خارج حدود تخصصه هو متعلم وليس مثقفا، لذلك كان الفكر والابتكار هما معيار الثقافة وليست الشهادات والألقاب، فحين سُئل العقاد عن إسهاماته في الفكر والأدب، قال: حطمت قيود الألقاب والبرامج الدراسية وجعلت للتفكير قيمة مستقلة عن الألقاب والعلوم المدرسية.

لذلك أرى أن التعلّم على أساس الحرية الفردية يولّد الثقافة أكثر من التعلم على أساس الغلبة الجماعية التى تورث الجمود الفكري وتُبلّد حاسة النقد والتأمل وتقتل في صاحبها روح الإبداع وشغف التساؤل والبحث عن ماهية الأشياء وتفكيكها، وختاما نحن بحاجة إلى مثقفي المشاريع لا مثقفو الإثارة وهواة الترند، فكل شئ يحط من قدر الثقافة ويقلل من دور المثقف يختصر الطرق التي تؤدي إلى الفشل والانهيار، تثقفوا تصحوا.