محمد حماد يكتب: هل ينصف التاريخ هيكل في موقفه من انقلاب مايو1971؟ (1 من 2)

ذات مصر

سألت كثيرين ممن انخرطوا في الصراع عند قمة السلطة بعد رحيل جمال عبد الناصر : 

ـ إذا عاد بكم الزمن هل تعيدون حساباتكم وتغيرون مواقفكم مما جرى؟ 

كان هناك شبه إجماع من الطرف المهزوم في الصراع على أنهم أخطأوا حساب مواقفهم، وتحديد مواقعهم، بعدما كشفت لهم تطورات الأحداث أنهم -أولًا- لم يكونوا مجموعة واحدة على قلب رجل واحد، وأنهم -ثانيًا- افتقدوا القدرة على المبادأة، وأنهم -ثالثاً- قد غرَّهم ما كان في أيديهم من مظاهر القوة أمام حقيقة السلطة في مصر وطبيعتها. 

في العادة الجانب المنتصر لا يكون في حاجة إلى إعادة تقييم ما جرى، وبالطبع لن تجد من أنور السادات وكل حلفائه ومن وقفوا معه أي تعديل في نظرتهم أو مواقفهم أو مواقعهم مما جرى في مايو 1971. 

يبقى موقف محمد حسنين هيكل وموقعه في هذا الصراع محسوبًا عليه، ويدخل في باب الخطيئة التاريخية، في نظر الأغلبية العظمى من الناصريين، وعند البعض من الذين تناولوا دراسة وتحليل المواقف في هذا الصراع عند قمة السلطة. 

 سألت الأستاذ هيكل السؤال نفسه، فقال لي مطمئنًا:

ـ «لو عاد بي الزمن مرة أخرى، إلى ما كنا فيه في أعقاب رحيل عبد الناصر، فسوف أقف الموقف نفسه الذي اتخذته في ذلك الوقت؛ لأن الصراع عندئذ  كان بين أطراف ليس أسوأهم أنور السادات، للأسف كنت مخيرًا بين الانحياز إلى الجهالة أو السفالة».

 * *

لم تكن السنوات من 1971 إلى 1974 هي أفضل سنوات هيكل في مسيرة اقترابه من قمة السلطة، بل لعلها كانت هي الأسوأ في تلك المسيرة، واجه خلالها ما لم يعتده من قبل طوال الثلاثين سنة، منذ التحق بالعمل في بلاط صاحبة الجلالة، وصدمته مواقف لم يكن يخطر في باله في أسوأ كوابيسه أنه سيتعرض لها في يوم من الأيام. 

في الفترة الملكية كانت قواعد اللعبة مستقرة، والمناخ العام يسمح بالكر والفر على رقعة الشطرنج المنصوبة بين صاحب الجلالة الملك، وبين الصحفيين العاملين في بلاط صاحبة الجلالة، في تلك الفترة ظل نجم محمد حسنين هيكل يعلو شيئاً فشيئاً في البلاط الذي كان يحتل قاعاته المميزة كثير من كبار الكتاب، وكان البهو الرئيسي يمتلأ بكثير من صغارهم الطامحين إلى تبوؤ مقاعد لهم في الصدارة. 

إدمانه للعمل، قبل موهبته، ساعداه على أن تضعه «أخبار اليوم» على منصة الانطلاق إلى أعلى مراتب النجومية بمواصفات العقد الأول من خمسينيات القرن الماضي، فانطلق بسرعة فاقت كل التوقعات، وقبل أن يصل إلى التاسعة والعشرين من عمره، وبالتحديد في 18 يونيو 1952 فوجئ قراء مجلة «آخر ساعة» بالصحفي الكبير علي أمين -وكان وقتها رئيسا لتحريرها- يخصص مقاله للحديث عن هيكل، وينهيه بأنه قرر أن يستقيل، وأن يقدم للقراء في الوقت نفسه هيكل رئيسًا للتحرير.

قبل قيام ثورة يوليو، وقبل أن يظهر جمال عبد الناصر على سطح الأحداث كان محمد حسنين هيكل مهيئاً للدور الذي سوف يلعبه بالقرب من صانع القرار في مصر، وهي موهبته التي أتقن فنونها مبكرًا. 

 * *

على طول مشواره بالقرب من قمة السلطة ظل أكثر ما يقلق هيكل هو أمنه الشخصي. 

في ظل جمال عبد الناصر ربما لم يستطع هيكل أن يقول كل ما يريد، كان أقل حرية، ولكنه كان أكثر أمنًا، وبعد عبد الناصر صار هيكل أكثر حرية، لم يكن هناك أحد يملك عليه الحق في وضع سقف لما يقوله، أو ما يكتبه، ولكنه بكل تأكيد صار أقل أمنًا. 

كان عليه أن يفكر في أمنه الشخصي وهو يخوض عند قمة السلطة معركة الوجود المؤثر، في ظل وجود شخصيات ليس لها ما كان لجمال عبد الناصر من قيم يحفظها حتى مع خصومه، وحدود لا يتعداها حتى لو استبد بالبعض شطط الخصومة. 

وكان هذا واحدًا من أهم الأسباب التي قادت هيكل إلى موقفه وموقعه الذي اختاره بعد رحيل جمال عبد الناصر، وانحيازه إلى صف أنور السادات. 

وحتى ننصف الحقيقة فإن أنور السادات لم يكن هو رهان هيكل الأول لخلافة عبد الناصر، فلما وجد أن المجموعة المتنفذة عند قمة السلطة تحبذ اختيار زكريا محيي الدين مرشحه الأصلي، عاد فراهن على أنور السادات مرشحًا  احتياطيًا، ولم تكن الوقائع تشير إلى أنه سيكون الرجل الأول، أو الرجل القوي في النظام الجديد. 

هذه نقطة يتفق حولها الطرفان في روايتهما للوقائع، يتهمه بها خصومه، ويقر بها هو بنفسه، ويشير إلى أن «بعضهم ربما خطر له أن السادات الذي يعرفونه يسهل التأثير عليه وتوجيهه»، ويعترف بأنه «ذكرهم بنموذج النحاس باشا الذي اختارته الأغلبية من قيادات الوفد بعد سعد زغلول ليكون رئيساً للحزب متصورين أنه الأضعف، وأنهم اكتشفوا بعد فوات الأوان أن الشخص الذي تصوروه الأضعف استطاع أن يطردهم واحداً بعد الآخر من الوفد ويبقى هو على القمة». 

وهذا -حسب اعترافاته- تحريض واضح ضد الاتجاه إلى اختيار السادات، فلما وجد منهم إصرارا عليه نقل رهانه إليه. 

 * *

خلال حواري المطول مع الأستاذ هيكل، وعبر محاوراتي المتعددة مع قيادات دولة عبد الناصر أستطيع أن أؤكد مطمئنًا أن كلا من طرفي الصراع عند القمة حاول منذ البداية استمالة هيكل إلى موقفه. 

كان شعراوي جمعه يدرك أهمية إبعاد هيكل عن الرئيس الجديد وتقريبه إلى موقفهم، في المقابل كان السادات أشد إلحاحًا على كسب هيكل، وراح يعمل بدأب على توسيع الخلاف بين هيكل وبين خصومه، وحسب شهادة الوزير محمد فائق فإن «السادات أوهم كل واحد فينا بأن الآخر يتآمر عليه»، وفي النهاية استطاع السادات أن يكسب هيكل إلى صفه. 

كلهم -بمن فيهم هيكل نفسه- استهانوا به، فأهان غباءهم في العلن وعلى رؤوس الأشهاد. 

كان هو المتآمر الحقيقي فيما سماه بمؤامرة مايو، اطمأنوا إلى قوتهم واستناموا أمام ضعفه البادي في مواجهتهم، لكنه استطاع أن يتخلص منهم في انقلاب قصر وانفرد بالسلطة، وتحكم في القرار الذي حاولوا مشاركته في صناعته. 

ومن بعد تخلص من كل حلفائه في انقلابه الذي لم يكن له غير هدف واحد: أن يتسلطن على كرسي الحكم دون شركاء مشاكسين. 

سألت الأستاذ هيكل:

ـ ماذا لو أنك وأنور السادات كنتما في الجانب الخاسر يوم 13 مايو سنة 1971؟ ما هي النتائج المتوقعة لو أن هذا حدث؟ 

ضحك وهو يقول: 

- لن تكون النتائج مختلفة كثيرًا عما يحدث في «الحزب الناصري» وفي جريدته «العربي»، مشيراً إلى الانقسامات داخل صفوف الحزب الذي يرأسه يومها واحد ممن كان يسميهم «مراكز القوى»، وأيضاً إلى الأوضاع المالية المتردية التي تعانيها جريدة الحزب. 

ثم عاد ليقول جادًا: 

ـ «أتصور أن أكثر شيء كانت البلد مرشحة له هو حرب أهلية، وكنت أكاد أرى ألسنة نيرانها عند الأفق، وأتصور أن مصر كانت ستحكم بالحديد والنار، وأشد الأساليب البوليسية بطشًا وجورًا، كل ذلك سيتم تحت أعلام ناصرية، وخلف صورة جمال عبد الناصر، وأعتقد أن مصر تحت حكم هؤلاء كانت مرشحة للسقوط بطريقة غير كريمة في قبضة الاتحاد السوفيتي». 

 * *

قد تكون هذه الصورة الميلودرامية لما توقعه هيكل من مصير تحت حكم من اصطلح على تسميتهم مراكز القوى التي كان تحكم مصر، ولكنها مخيفة ومرعبة، ولو أنها كانت حقيقة توقعاته فإنها كافية لتبرر له موقفه وانحيازه إلى جانب أنور السادات. 

وللحق فإنه ذكر هذا المعنى في أعقاب أحداث مايو وبالتحديد في افتتاحية «الأهرام» يوم 11 يونيو 1971تحت عنوان «طاقة مدهشة» كتب يقول: «في غير مصر بدون شعبها كان يمكن لما حدث أن يأخذ طريقًا آخر يؤدى إلى سراديب اليأس الأسود، أو ربما إلى حمامات الدم الأحمر».

وقائع الخلافات الشهيرة بين أنور السادات وهيكل في أثناء علاقة القرب أو بعد الابتعاد والافتراق تؤكد بما لا يدع مجالا لتشكيك أن هيكل لم يكن يتصور، ولا يتوقع أن السادات يمكن له أن يمضي بعيًدًا عن الأساسيات والملامح العامة التي قامت عليها السياسة المصرية طوال عهد سلفه جمال عبد الناصر. 

ولكنه اكتشف تلك الحقيقة شيئاً فشيئاً وحين اتضحت أمامه صورة ما يمكن للسادات أن يقدم عليه، لم يسكت، بل حذر، لمح أحيانًا وصرح في أحيان أخرى، حتى ابتعدت بهم الطرق لتصل إلى النهاية المفجعة، السادات صريعًا على منصة الاحتفال بنصر السادس من أكتوبر، وهيكل سجين بمزرعة طرة.

 * *

ولإنصاف الحقيقة أيضًا لا يمكن أن ننكر أن هيكل لم يكن يستريح إلى أكثر قيادات «جماعة مايو». 

كان الحب مفتقًدًا بينهم في ظل عبد الناصر، ثم تحول الأمر إلى عداوة معلنة في عصر السادات. 

كان لا يحبهم بالجملة، وعلى مستوى علاقاته مع كثير منهم لم يكن على ود مع أغلبيتهم، الوحيد الذي رأى أن فيه «قماشة سياسية» صالحة للتطوير هو شعراوي جمعة، أما البقية فكان يتجنبهم، إلا الذين دخلوا معه معارك كلامية علنية، مثل علي صبري وعدد من قيادات اللجنة العليا بالاتحاد الاشتراكي. 

هؤلاء الذين حاولوا محاكمته سياسيًا على مقال «عبد الناصر ليس أسطورة» الذي نشره في الأهرام في الذكرى الأربعين لرحيل عبد الناصر. 

استغل السادات هذه المحاكمة التي نصبوها لهيكل أمام اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي التي يسيطرون على الأغلبية فيها، وفرض حمايته على هيكل، ودفعه إلى موقع التحالف معه، وأثبت أنه قادر على حمايته من محاولات المساس به، ثم إنه أثبت لنفسه وللآخرين أنه قادر على الحركة بنجاح وسط تناقضات يؤججها ويزيد نارها اشتعالًا.