موسم توريد القمح.. «كماشة الحكومة» تفشل باصطياد «حيل الفلاحين» و«تجار الذهب الأصفر»

ذات مصر

قبل أسابيع قليلة، انطلق موسم حصاد القمح بتطمينات ومحظورات وأمنيات حكومية تؤكد قدراتها على جذب إنتاج الفلاحين إلى صوامعها بدلًا من بيعه في السوق السوداء، معلنة زيادة سعر توريد أردب القمح ليسجل 1500 جنيه، لكن مرور أيام قليلة بدت الأحلام بعيدة والأماني صعبة المنال.

الوزارات المعنية بمتابعة موسم الحصاد بدأت العام بالتأكيد أن إنتاجية العام الحالي ستكون الأعلى بفضل استنباط أصناف جديدة، فضلًا عن زيادة المزروعة هذا العام إلى 3.2 مليون فدان بفضل مشروعي توشكى وشرق العوينات، لكنها في الوقت ذاته خفضت توقعاتها بالنسبة للتوريد.

العام الماضي استهدفت الحكومة توريد نحو 6 ملايين طن، لكن مع نهاية موسم التوريد أعلنت توريد 4.2 مليون طن فقط، وفي العام الجاري حاولت أن تقلل توقعاتها بأقل مما وصل إليها ليعلن وزير التموين علي المصيلحي استهداف وزارته تخزين 4 ملايين طن بنهاية الموسم.

محظورات حكومية لإجبار الفلاحين

التوقعات المنخفضة لم تمنع «التموين» من فرض محظورات على المزارعين لإجبارهم على توريد القمح لصوامعها رغم إعلانها زيادة سعر الأردب من 1250 إلى 1500 جنيه، خوفًا من سوق القمح السوداء التي عادة ما تتفوق على الحكومة سواء في «الذهب أو الدولار» ومؤخرًا القمح.

محظورات الحكومة تضمنت منع استخدام القمح علفًا للأسماك أو دخوله في العلف الحيواني، ومنع نقله من محافظة إلى أخرى إلا بموافقة من مديرية التموين، اقتصار تسويقه على الشركة القابضة للصوامع والشركة العامة للصوامع وشركات المطاحن التابعة للشركة القابضة للصناعات الغذائية والمصرف الزراعي.

وإلى جانب القيود الصارمة المفروضة على المزارعين، وجّهت الحكومة أصحاب مطاحن القطاع الخاص والمنتجة للدقيق الحرّ تدبير احتياجاتهم من القمح المستورد، وحظرت عليهم استخدام القمح المحلي في موسم التسويق إلا بتصريح من وزارة التموين والتجارة الداخلية.

ضعف التوريد لصوامع «التموين»

معدلات التوريد هذا العام لم تتفوق حتى الآن على أرقام العام الماضي، فمحافظات الصعيد (مصر الوسطى والعليا) بداية من المنيا حتى أسوان تسجل أدنى نسبة في معدلات توريد القمح إلى الصوامع على مستوى الجمهورية، وفقًا لإحصائية رسمية صادرة عن الهيئة القومية لسلامة الغذاء، يوم الأحد الماضي.

وتصدرت محافظات الوجه البحري أعلى نسب توريد القمح المحلي منذ بدء موسم الحصاد- هذا العام-، وعلى رأسها القليوبية بنحو 737 ألفا و2 طن و922 كيلو، جاءت أسيوط في ذيل القائمة بقرابة 35 ألفا و140 طنا و524 كيلو، فيما كان حال باقي إقليم الصعيد مماثلا.

جاءت نسب التوريد منذ انطلاق موسم 2023 في 8 أبريل الماضي حتى الآن أقل من مثيلها في العام 2022، ففي شهر أبريل من العام 2022، الذي أنطلق فيه موسم التوريد، استقبلت الصوامع ما يعادل 2.14 مليون طن، وفقًا لرئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، ولكن هذا العام حتى الآن استقبلت 2.1 مليون طن وفقًا لإعلان الهيئة القومية لسلامة الغذاء صباح يوم الأحد.

الإفلات من كماشة الحكومة

هيئة السلع التموينية التابعة لوزارة التموين، تتسلم القمح المورد من الفلاحين بسعر 1500 جنيهٍ للإردب، فيما يصل سعره في السوق السوداء إلى 2700 جنيهٍ، ما يجعل العديد من المزارعين يعملون على الإفلات من كماشة الحكومة لأجل البيع بالسعر الأعلى لأباطرة الذهب الأصفر، عبر حيلٍ متنوعة ورائجة في الصعيد.

أحمد أبو الحسن أحد مزارعي محافظة سوهاج تحدث لـ"ذات مصر" عن مبرراته لبيع محصول القمح بالسوق السوداء بدلاً من توريده إلى الحكومة، فضلًا عن الأساليب التي يلجأ إليها حتى لا يقع تحت طائلة القانون.

صمّت "أبو الحسن" لثوانٍ قليلة ثمّ تفجّر صوته فجأة كالبركان، وهو يقول: "شيكارة الكيماوي بـ800 جنيه وعازوني أورد الإردب بـألف ونص"، موضحًا أنّه سيتكبد خسائر فادحة حال التزامه بتعليمات التموين بشأن توريد القمح، نظرًا لارتفاع تكلفة الزراعة من تقاوٍ وأسمدة ومبيدات حشرية وغلاء أجرة الأيدي العاملة والمعادات المستخدمة في حرث وري الأرض وصولاً إلى الحصاد.

وعن كيفية التحايل على قرارات تأمين مخزون القمح المحلي، يُشير عدنان أبو الوفا، أحد مزارعي القمح، إلى أنّه لم يعد في حاجة للتهرب من السلطات لبيع محصوله بالسوق السوداء فقد تخلّت الحكومة عن إجبار الفلاحين على توريد حصص محددة من محاصيلهم، غير أنه ليس مضطرًا إلى نقل المحصول إلى مكان آخر لأن التاجر يذهب إليه عند الحقل للاستلام.

واختتم بالإشارة إلى أنه قبل صدور ذلك القرار، كان يورد نسبة ضئيلة من محصول القمح إلى الحكومة، ويتحجج بضعف الإنتاج، بينما يذهب فريق آخر من الفلاحين إلى الاتفاق مع بعض موظفي الإدارة الزراعية بالقرية التابع لها، بصفة غير رسمية على تقليص حجم الأراضي التي يملكها في الحيازة الزراعية إلى النصف أو أكثر، مقابل دفع إكراميات لهم، غير أن العديد من صغار المزارعين ليس لديهم حيازة موثقة بالأساس ما يجعلهم بعيدًا عن أعين الرقابة.

وعادةً ما يخزِّن صغار مزارعي القمح بالصعيد نسبة من المحصول في المنازل لاستخدامه في خبز العيش الشمسي، بينما يبيعون المتبقي بالسوق السوداء سواء لتجار أو جيرانهم من غير المزارعين في القرى والنجوع.

أباطرة الذهب الأصفر

ليست هذه الأسباب الواحدة فهناك شبكة كبيرة من التجار في شتى محافظات الجمهورية يعملون على الاتفاق مع المزارعين لشراء محاصيلهم سواء من الأرض أو غيرها، فيما يسمى "السوق السواء" أو "أباطرة القمح".

أباطرة السوق السوداء يجمعون المحصول من المزارعين عبر وسطاء (صغار التجار) بأسعار تلامس ضعف سعر الحكومة، ثمّ يطرحونه في الأسواق كأنه مستورد من الخارج، وفق ما أكّد أحد التجار- فضّل عدم ذكر اسمه.

في الصعيد مثلًا يوجد نحو 10 تجار يحتكرون سوق القمح ويستلمون القمح المحلي من صغار التجار بسعر 3100 جنيه للأردب الواحد، وبعد طحنه يعبأ داخل أجولة، ويطرح في السوق على هيئة دقيق فاخر مستورد من الخارج، وبالتالي يكون سعره مرتفعًا. 

الحال نفسه بالنسبة لمحافظات الوجه البحري والذين يعقدون صفقات ثنائية عادة مع التجار وموظفي الجمعية الزراعية للتلاعب بالأوراق هربًا من محظورات الحكومة وكذلك الغرامات التي قد تفرض عليهم.

ويبين أحدهم، أنه يتعامل مع تاجر معين كل عام يمنحه أعلى سعر خصوصًا أنه يمتلك نحو 5 فدادين كاملة، مشيرًا إلى أنه يشترط على التاجر توريد كمية لوزارة التموين سواء من محصوله أو محصول غيره الأقل جودة باسمه للهروب من «فخ الحكومة».