خارج السيطرة.. لماذا تعجز أمريكا عن احتواء الصين؟

ذات مصر
  تتسم الحملات الانتخابية الأمريكية الراهنة، مثل كل سابقاتها تقريبًا، بحضور الكثير من الخطابات شديدة اللهجة حيال الصين ومختلف التهديدات التي تشكلها، لكن بمجرد أن تتلاشى الخطابات الدعائية لتلك الحملات ستتعين على المرشح المنتصر معرفة ما يجب فعله أمام الصين. في الحقيقة، إن إدارة العلاقات الأمريكية مع الصين هي التحدي الذي يلوح في الأفق ويخيّم على جميع جوانب السياسة الخارجية الأخرى، ومن المؤكد أنه سيؤثر في نجاح أو فشل كل ما نقوم به، كما سيؤثر في العديد من الاقتصادات الأخرى حول العالم. يمتلك الباحثون ومراكز الأبحاث، والمسؤولون الحكوميون الحاليون والسابقون، طيفًا واسعًا من آراء تتراوح بين تلك التي تؤكد وجود تهديد صيني خطير، وبين أولئك الذين يدعون إلى مراجعة مواقف ترامب المواجهة للصين.

تحطيم قواعد اللعبة

وعندما نبحث عن موقف سياسي معتدل وسط هذا الانقسام، نبدأ دائمًا بالسؤال: ما الحقائق التي يجب علينا أخذها بعين الاعتبار؟ في ما يلي 4 أمور واضحة بالنسبة إليَّ يجب على  واشنطن النظر إليها، وهي تصوغ سياستها تجاه الصين في عام 2021. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] علما الصين وأمريكا[/caption] أولًا، من الصعب استمرار الحفاظ على المفهوم الأمريكي السائد منذ عهود طويلة بأن مجرد دعم الصعود الصيني سيجعل بكين في النهاية "صاحبة مصلحة ومسؤولة عما تفعل"، وهو التصور الذي اعتقده الكثيرون في ما يتعلق بالتجارة الدولية وفي النظام العالمي الذي أنشأته الولايات المتحدة بالأساس بعد الحرب العالمية الثانية. وكان هذا هو الأمل الأمريكي المتحمس منذ أن بدأ الزعيم الصيني دينج شياو بينج قبل 40 عامًا في عملية إصلاح الاقتصاد الصيني. من الصعب قراءة تصريحات الرئيس الحالي شي جين بينج والممارسات الصينية الراهنة في سياق يخالف، على الأقل، الإشارة إلى عدم الرضا العميق عن النظام العالمي الحالي أو على الأكثر الرغبة في استبداله بنظام آخر يتمحور حول سلسلة من ترابط العلاقات السياسية والاقتصادية مع الصين، لذلك، نعم، ترفض الصين "القواعد" التي وضعتها الولايات المتحدة خلال سنوات قوتها العالمية البارزة. ثانيًا، ستستمر الصين في النمو الاقتصادي، حتى ولو بوتيرة أبطأ مما كانت عليه خلال عقود ازدهارها الأكثر نموًّا. ويعتبر اقتصاد الصين بالفعل أكبر بنحو الثلث من اقتصاد الولايات المتحدة في تعادل القوة الشرائية، وسيحقق التعادل قريبًا في المعدلات الاسمية، إذ تنتج الصين 30% من حجم التصنيع العالمي، وهي الشريك التجاري الرئيس لنحو ثلاثة أرباع دول العالم. ثالثًا، يشكّل التحديث العسكري الذي قادته الصين على مدى العقود الأربعة الأخيرة مزيدًا من الخطورة على القوات الأمريكية في المحيط الهادي، مع تطلعها إلى الهيمنة على المنطقة بحلول عام 2049. ربما تمتلك الولايات المتحدة الآن أقوى جيش في العالم من حيث القيمة المطلقة، لكن لجنة إستراتيجية الدفاع الوطني، المكونة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، كانت قد سلطت الضوء في عام 2018 على الترسانات البحرية والصاروخية الصينية المتنامية، وأعربت عن قلقها من أن الولايات المتحدة قد تضطر إلى "الصراع من أجل الانتصار وربما تخسر" صراعًا مع الصين. في الوقت ذاته، تخطط الصين لمضاعفة ترسانتها النووية في العقد المقبل، بحسب وزارة الدفاع الأمريكية، وخلال 5 سنوات، سوف تمتلك نحو 200 رأس نووي قادر على استهداف الولايات المتحدة (مع الأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة لديها نحو 3800 رأس نووي وأن موقف الصين دفاعي، أي أنها تتجنب الضربة النووية الأولى). رابعًا، رغم أن الصين تبدو غير قادرة على بناء تحالفات مختلفة من ناحية القيم تنافس تحالفات الولايات المتحدة، فإنها تبثّ أفكارًا تحويلية تلقى استجابة كبيرة، مثلما فعلت الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الصراع بين أمريكا والصين[/caption] وقد استقطب البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB) الذي أنشأته الصين، مشاركة العديد من حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك نصف دول حلف شمال الأطلسي، والعديد من الشركاء الآسيويين، مثل أستراليا. وتعمل مبادرة بكين "حزام واحد.. طريق واحد" (BRI) على ربط الصين تدريجيًّا بالشرق الأوسط وأوروبا من خلال شبكة من الطرق والسكك الحديدية والموانئ والاتفاقيات الجوية. وفي أعقاب الانسحاب الأمريكي من اتفاقيات الشراكة عبر المحيط الهادي، ألقت الصين بثقلها وراء اتفاقيات مماثلة، وهي الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي ضمت 15 دولة (RCEP) والتي يشكل أعضاؤها في آسيا والمحيط الهادي ثلث سكان الأرض وإنتاجها. على خلفية مثل هذه الحقائق، لا توجد استراتيجية مُثلى يمكن أن تعتمدها السياسة الخارجية الأمريكية، ولكن ثمة إستراتيجيات يجب تجنبها. إحدى هذه الإستراتيجيات هي إستراتيجية "الفصل الاقتصادي" التي يروج له كثيرون على اعتبارها السبيل لإنهاء أي اعتماد على الصين وإضعاف اقتصادها. ولكن الاقتصاد الأمريكي والصيني متشابكان للغاية بحيث لا يمكن التخطيط لفصلهما على نحو واقعي، فحجم المشتريات الأمريكية السنوية من الصين يبلغ في المتوسط نحو 500 مليار دولار من البضائع من جميع الفئات (بدءًا من الإلكترونيات المتطورة إلى الأدوات المنزلية الشائعة) تبيع منها بأكثر من 100 مليار دولار (تتراوح بين معدات نقل وإلكترونيات وغذاء) إلى جانب 300 مليار دولار مبيعات شرائح الكمبيوتر وحدها. وتنطوي إستراتيجية الفصل أيضًا على مخاوف لا داعي فيها للمنافسة وجهًا لوجه، والتي يتعين علينا حينئذ ببساطة مواجهتها، والتي نتمتع فيها في الوقت ذاته بميزة كبيرة. وهذا يشمل حتى التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، بحسب العديد من الدراسات الجامعية الحديثة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى تقليدنا البحثي المفتوح، وهو نقيض إستراتيجية الفصل بين الاقتصادين تمامًا. من المفترض أننا نسعى إلى صوغ إستراتيجية تؤدي إلى أي مسار آخر سوى الصراع العسكري، والقبول بذلك يعني أنه عند نقطة معينة سوف تتسم علاقتنا، حتى لو شابتها لحظات من العداء، بلحظات من الشراكة أو المصالح المشتركة حيال بعض القضايا (كوريا الشمالية، الإرهاب) والمنافسة الشديدة على مجموعة من القضايا الاقتصادية والسياسية. بعبارة أخرى، علينا أن نقبل أن الأمر سيكون معقدًا، وأن نقاوم التوصيفات بمصطلحات رجعية الأثر تعكس الماضي، مثل "الاحتواء" أو "الحرب الباردة"، وهي مصطلحات موروثة من صراع مع خصم اختفى.. والصين لن تختفي. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] حركة التجارة الصينية[/caption] سوف تتطلب إستراتيجيتنا مع الصين حالة من المرونة من أجل التكيف مع الظروف المتغيرة، لكن خطوط البداية يمكن أن تشتمل على  ما يلي:
  • تصميم على المنافسة بقوة على جميع أصعدة القوة والنفوذ، وتنفيذ ذلك بجهود "حكومية شاملة" للولايات المتحدة، أي إستراتيجية تنتظم فيها جميع قطاعات الحكومة الأمريكية بطريقة منسقة: اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية واستخباراتية.
  • آليات استشارية متنامية مع الصين -عسكرية ودبلوماسية واقتصادية واستخباراتية- من أجل تعزيز التفاهمات المتبادلة وإدارة الصراع.
  • إنشاء وتعزيز التحالفات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًّا لها، والتي لا تهدف إلى عزل الصين، بل إلى تنسيق التفاعل معها.. هذا هو "مُضاعِف القوة" الأكثر فاعلية لدينا.
  • التركيز على جوانب تحديث الدفاع الأمريكي والاستحواذ والتخطيط والانتشار، والتي تعطي الأولوية لتعزيز حالة الردع - مع الهدف الرئيس المتمثل في تثبيط الاستفزازات الصينية التي يمكن أن تؤدي إلى نشوء الصراع.
باختصار، تشكل الصين تحديًا متعدد الأبعاد، على عكس أي تحدٍّ آخر شهدته الولايات المتحدة من قبل، وفي بيئة تنافسية أكثر تعقيدًا مما واجهناه من قبل.. يتطلب هذا صوغ إستراتيجية واضحة لما نرغب في الوصول إليه ووسائل تحقيقه.. فالحفاظ على التأثير الأمريكي الحاسم يتطلب مزيدًا من المرونة والتكيف أكثر مما نقدمه الآن أو مما قدمناه في الماضي القريب.