علي الصاوي يكتب: كُن أحمق ولا تكن عاقلًا

ذات مصر

قال أحد الشعراء يومًا مُتهكمًا على نفسه بين ما كان عليه من العقل وما أصبح فيه من الحُمق فيقول: فأصبحت في الحمقى أميراً مُؤمّراً.. وما أحد من الناس يُمكنه عزلي.. وصِيّر لي حمقى بغالا وغِلمة.. وكنت زمان العقل ممتطيا رجلي.

كلمات هى في حقيقتها منهج حياة كثير من النماذج العاطلة المفلسة، قبل أن تكون أبياتا شعرية فكاهية لشاعر ساخر، وأسلوب عصري صبغ كافة ميادين حياتنا بلون قاتم قلب معايير النجاح وبدّل مفاهيم الإبداع والاحترام، فجعل من الحُمق قاعدة وغيره من التعاقل والجد استثناء، فإذا كنت تريد الشهرة فالحماقة أقصر الطرق إلى ذلك، وإن كنت قزمًا خامل الذكر وضيع المكانة عليك بالهزل والتفاهة تُصبح عملاقًا يُشار إليك بالبنان، وتكون نجم الشباك و«نمبر وان» في إيرادات التذاكر، وإياك والعقل فهو بضاعة كاسدة لا تروج عند أحد. وإن أتى صاحبه بما لم يأت به الأوائل، وملك مفاتيح حل مشكلة الأوزون والحرب الروسية الأوكرانية وأزمة تغيير المناخ.

يقول الكاب الفرنسي جي ديبور، في كتابه «عصر الفُرجة»: في المجتمعات المقلوبة رأسا على عقب يُصبح كل ما هو حقيقي وواقعي لحظة من لحظات ما هو وهمى وزائف، ويُشخّص الكاتب الكندي ألان دونو، في كتابه «عصر التفاهة»، حالة الغربة التي تعيشها النخب والمواهب في مجتمعاتها وسط غثاء من الإسفاف والرداءة، ويُقدم لهم نصيحة فيقول: «لا داعي لهذه الكتب المعقّدة، لا تكن فخورًا ولا روحانيًا، فهذا يُظهرك متكبرًا، لا تُقدم أي فكرة جيدة، فستكون عُرضة للنقد، لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة وانحلال، عليك أن تكون قابلًا للتعليب، لقد تغيّر الزمن، وأصبح التافهون يسيطرون على كل شيء».

واقع أليم يحياه من حباهم القدر مواهب فريدة ونفوسًا معطاءة لخدمة مجتمعاتهم والارتقاء بمستوى فكرها وفنونها لتربية العواطف والأذواق وإثارة الحماس، وتقديم أنفسهم كقدوة حسنة للأجيال الناشئة تنسج على منوالها وتحذو حذوها في ميادين الفكر والإبداع، وأذكر ما قاله لي أحد الأصدقاء يومًا: نحن في زمن شعاره «هلّس يا تعيش مفلّس». وقد صدق صديقي حين أشار بعبارته الهزلية لموضع الجُرح الذي يتسع يومًا بعد يوم فأصاب جسد المجتمع بشلل أقعده عن الحركة، وترك القبح يسرح ويمرح بين الناس، فتُرفع له القبعات وتنهال عليه الدولارات.

أما عن العقلاء وذوي الأخلاق فقد ضاقت بهم السبل وصار محيطهم أضيق عليهم من سَم الخِياط، فإما أن يعتزلوا في صوامعهم فتموت مواهبهم وتُشيّع في مقابر النسيان والإهمال، وإما التماهي مع ثقافة القبح السائدة وإن بلغ أحدهم مكانة صعصعة بن صولجان، فيكون حالهم في النهاية كحال الشاعر العباسي الهزلي أبو العبر.

فمن يكون أبو العِبر؟

كان أميرًا من أمراء البيت العباسي، ليس بينه وبين عبد الله بن عباس الصحابي الجليل إلا خمسة آباء، ولد أبو العبر بعد خمس سنوات من خلافة هارون الرشيد، وحين بلغ أشدة واستوى أخذ يتعلم ويتأدب.

كان طوال فترة نشأته جادًا في حياته، لم يكن  غنيًا مثل باقي الأمراء، ولا مقربًا من الخلفاء، ورأى أن القرب إليهم أسبابه كثيرة؛ منها القدرة السياسية، ومنها القدرة الأدبية، ومنها غير هذا وذاك؛ فاتجه إلى الأدب يدرسه، والشعر يقرضه، لعله يصل من ذلك إلى منزلة تلفت إليه نظر الخلفاء؛ ليصيب من خيرهم، لكنه فشل رغم جودة شعره، بسبب وجود فحول الشعراء أمثال البحتري وأبو تمام، حاول أن يُعلم نفسه القناعة ليكبح جماح مارده فلم يفلح، فقال لنفسه: لقد نيَّفتُ على الخمسين وأنا أجرب العقل فلم أنجح، أفلا يكون من الصواب أن أجرب الحمق مرة لعلي أنجح؟

قرّر أبو العبر أن يكون أضحوكة الناس، وقال: لأطرحن لقب أبو العباس ولأطأه بقدمي إعلانًا بإخفاق الجدّ في هذا العالم، فما جنيت منه إلا الفقر والبؤس وسوء الحال وخيبة المصير، ولتكن كنيتك من الآن أبا العِبَر.

خرج أبو العبر على الناس بفنون شتى من الكوميديا بشعر الهزل، فبدأ يسطع نجمه، وكلما نجح شجعه النجاح على الإمعان في السخف، حتى بلغ في ذلك الغاية وعلا صيته، وتناقل الناس نوادره، عَلَمًا على الضحك والسرور، ويكفي أن يذكروا له نادرة حتى يمسكوا أحشاءهم من كثرة الضحك، فكان يقول: الليل ليل والنهار نهار.. والأرض فيها الماء والأشجار.

ويقول: باضَ الحب في قلبي..فَوَاوَيْلِي إذا فَرَّخْ.. وما ينفعني حبي.. إذا لم أَكْنُسِ البَرْبَخ.

وقد سُئل عن هذه المفارقات الغريبة، وكيف يمكنك جمعها على شذوذها وبُعد أوصالها؟ فقال: في الصباح أجلس على الجسر ومعي قلم وقرطاس، فأكتب كل شيء أسمعه من كلام الذاهب والجائي والمَلاحين حتى أملأ القرطاس من الوجهين، ثم أقطعه عرضًا، وألصقه مخالفًا، فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه.

نجح أبو العبر أن يصل بالتحامق ما عجز أن يصل إليه بالتعاقل، فقال يومًا: «لو نفق العقل لعقلت، ولو راج الجدّ لجددت، ولكن حَمق الناس فتحامقت»، ليضرب أبو العِبر بذلك مثلا في أقصر الطرق نحو المجد والشهرة، فالناس تستسيغ التفاهات وتُعرض عن الجاد، فالتفاهة تُعطل الحواس وتبلد المشاعر وتمنع الناس عن التفكير في واقعهم البائس خشية الجنون، لذلك راجت بضاعة أبو العِبر وكسد غيرها.