علي الصاوي يكتب: عريان أفندي

ذات مصر

يقول الشاعر: "إذا انتصبوا للقول قالوا فأحسنوا.. لكن حسن القول خالفه الفعل"

كل إنسان عاقل يعلم أن مَن كان كلامه مِن عمله أقلّ من الشعارات الفارغة وأكثر من العمل الجاد، فإن عجز عن تحقيق تناغم بين قوله وعمله اكتفى بالصمت فلا يدعو إلى فضيلة لا يقوى على امتثالها، ولا يرفع راية حق لا يقدر على حملها، وإلا كان كالحمار يحمل أسفارا، وكالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.

وبطل قصتنا اليوم هو الموظف البيروقراطي الوصولي رياض المحجوب الشهير بـ"عريان أفندي" موظف على الدرجة الثانية في الشهر العقاري بقرية "مِيت جبان" شخصية وصولية الطبع متقلبة المزاج شاردة الهوى سيئة الخلق، منذ أن التحق بالشهر العقاري في قرية "ميت جبان" وهو يتقلّب بين نار الرغبة من أجل الترقي وضعف القدرة في الوصول إليها، فكان يلجأ إلى حيل كثيرة تُعبّد له الطريق نحو القمة، لا تَهمه الوسائل طالما الغاية في نظره نبيلة.  

كان المحجوب يتودد ويتملّق مديره العام ويُقدم له نذور المدح وقرابين الثناء يوميًا ليبسط له جناحه ويُقرّبه كأول الطريق نحو الترقية، لكن ذلك لم يكن كافيًا، فكان لا بد لرياض المحجوب من جوقة من المنافقين داخل الشهر العقاري، تُلمّع صورته وتُبرز محاسنه ليحظى بمكانة معنوية تدفع مديره العام بتزكيته مع أول حركة ترقية، لم يكن رياض المحجوب شخصًا سهلًا، كان طامحًا يُجيد مكر الثعالب وتلون الحرباء عند الشدة، ووثوب الأسد وسرعة الفهد ساعة تتهيأ الفرصة فيسطو بمخالب الغدر على منافسيه ليقضي عليهم ثم يأكل من ساعده في معركته لإخفاء شواهد ضعفه وغدره.

استطاع المحجوب أن يُحيط نفسه بمجموعة من المعارف داخل المؤسسة متناقضة في المبادئ وصدامية في الأفكار، لا يجمعهم رابط ولا يلتقون في فكرة، إلا ما يقوم به رياض المحجوب من إغراءات في مناسبات عدة ليأمن جانبهم ويحظى بدعمهم للوصول إلى هدفه، لا يجمع بينهم شيء إلا موائد طعامه المسمومة وحفلاته التنكرية المليئة بزيف المنح، والنفاق الاجتماعي والمجاملات الفاترة، وحين يجتمع بهم في حديقة منزله الواسع بقرية ميت جبان، كان يتخلّق بأخلاق كل واحد منهم ليكسب ودّه، فأمام المتديّن تجده هادئ الطبع مِثال للعفة والأمانة، ومع المنفلت أخلاقيا تراه طويل اللسان مفلوت الزمام مُطلَق اليد في فعل كل الموبقات، وقد يصل به التماهي والانبطاح أن يكون خادما لمن يفوقه قوة ومكانة، ومع الأشخاص الوقورة تجده قليل الكلام أنيق المظهر لا يتكلم إلا بحساب خشية أن تهتز صورته عندهم، يتخلّق بأخلاق كل مرحلة وظرف عندما تقتضي الحاجة.

فكّر رياض المحجوب كيف يزيح مديره العام ليجلس مكانه؟ فقال يوما في نفسه: لقد هيأت كل الأجواء والسياقات الإدارية والاجتماعية للظفر بلقب العمر، لم يبق سوى عدة أمتار لأجتاز تلك المسافة الصغيرة التي تحول بيني وبين هذا المنصب، يا لحظك التعيس يا رياض!

فكّر رياض كثيرًا إلى أن هداه شيطانه بأن يُلفق تُهمة للمدير ويُخرجه بفضيحة ليأخذ مكانه، فهذا المحجوب لا يتورع من فعل أي شيء لتحقيق مراده، فبدأ يبث شائعات مُغرضة بأن مديره على علاقة آثمة مع سكرتيرة مكتبه الحسناء اللعوب نبيلة هانم، وكل من كان يُكذّب تلك الفِرية الحمقاء من الموظفين، يتهمه رياض على الفور بأنه على علاقة معها هو الآخر، لم يَسلم منه أحد، اتهم الجميع بالخيانة والمشي البطال، فكادوا أن يُصدّقوه خاصة بعد أن استدعى مجلس الإدارة المدير العام للتحقيق معه في ذلك الافتراء، ورياض المحجوب ينفث خبثه هنا وهناك ويشعل نار الفتنة أكثر ويحشد الرأى العام في المكان ضد المدير، ليُسرّع من الأحداث ويظفر بمنصب المدير، فالترقية في انتظاره والأجواء جاهزة لاستقباله، لكن رياح التآمر لا تأتي دائمًا كما يشتهى المتآمرون، فثغرة بسيطة قد تكشف كل مُخطط خبيث وعمل شيطاني يقوم به الإنسان، فكلما كان مكر المرء أكبر، كانت الأشياء البسيطة هى التي تُوقعه في الفخ.

تلك الثغرة كشفها عامل البوفيه "عرابي جلهوم"، ففي آخر الدوام بعد ظهر يوم الأحد وبعد أن غادر الموظفين الشهر العقاري سمع عرابي همسا وحركة غير معتادة في مكتب رياض المحجوب، فتعامل بذكاء ولم يفتح الباب واختبأ بعيدًا ليرى من هذه الأنثى التي سمعها تهمس في خلاعة ودلال بداخل مكتب رياض المحجوب خاصةً وأن دوام العمل قد انتهى!.

مرّ من الوقت ربع ساعة وعرابي ينتظر حتى خرجت امرأة ممشوقة القوام تهندم في ثيابها ليكتشف عرابي أنها سكرتيرة المدير العام الذي اتهمه رياض بأنه على علاقة معها، مرّت أيام وعرابي جلهوم يَهمس في أذن كل موظف ويُخبره بما رأى، وعلى إثر ذلك الخبر المشين تخلى حلفاء رياض عنه اتقاء الشُبهة، ممن كان يُغريهم بالعزومات والهدايا الثمينة لكسب ودهم، لم يكن كلام عامل البوفيه مسموعًا لكن نظرات الموظفين لبعضهم خلقت مناخًا من الاحتقان والشك تجاه رياض والسكرتيرة، وبدأ غطاء الحقيقة ينكشف بالتدريج شيئاً فشيئا.

اتفق جميع الموظفين على أن ينصبوا لهما كمينا بعد انتهاء الدوام خاصة أنصار المدير العام المُفترى عليه، فقد تظاهروا بمغادرة المقر وعادوا بعد نصف ساعة حين أشار إليهم عامل البوفيه عرابي جلهوم، وهنا وقعت الفضيحة واكتشفوا حقيقة رياض المحجوب ليفضحه ربه على الملأ، وأخرجوه ونصف جسده عاريًا وهم يرددون "عريان أفندي، عريان أفندي" فوقف عامل البوفيه "عرابي جلهوم" يسأل الله الستر ويقول: الحقيقة زي الجريمة يومًا ما ستنكشف" اللهم لا ترفع سترك عنا.
وبعد أن فُتح التحقيق في الواقعة تم تبرأة المدير العام واتهام رياض المحجوب بفعل فاحش في مؤسسة حكومية بعد انتهاء دوام العاملين، إضافة إلى رمى مديره العام بالزور والبهتان، لكن المفاجأة كانت في السكرتيرة نبيلة هانم فقد اتضح من التحقيقات أنها زوجة رياض المحجوب في السر، وكتم رياض هذه المعلومة لاستخدامها في أعمال منافية داخل المؤسسة وخارجها، فهو من ساعدها في التعيين برشوة جنسية مع أحد المسؤولين في الإدارة العليا، وكشفت التحقيقات أنها تواطأت معه في محاولة الإيقاع بالمدير العام، ورضيت بتشويه سمعتها طواعية فهي مثل رياض المحجوب في التحلل من الأخلاق وانعدام التربية، لينزاح من أمامهم المدير ويخلو لهما جوّ الشهر العقاري لفعل ما يريدون من خطط ومؤامرات.

هكذا سقط رياض المحجوب وكشف الله باطله الذي كان يرمي به الناس كذبا وبهتانًا، وكان هو أول من يمارسه في الظلام بلا حياء أو خجل، حتى لُقّب بعريان أفندي، ولقد اقتضت سنن الكون أن يكون لكل رياض محجوب منفلت الأخلاق فاقد المروءة عديم الوفاء، عرابي جلهوم يفضحه ويكشف ستره أمام الله والناس.