علي الصاوي يكتب: مجرّد وجهة نظر

ذات مصر

سألني أحدهم: صِف لي شعارات بعض الذين يُعارضون سياسيا من مكان بعيد فيجَوّدون ويزخرفون ويُزيّنون، فقلت: هي مثل إمرأة قبيحة لم تستطع أن تُجمّل نفسها فلجأت إلى الذهب والحلي لتداري قُبحها، ثم قال: حدثني عن المعارض الفاشل، فقلت: هو الفارغ الذي لا يُعاني من مخاض الفكر، ولا تستهويه المشاريع القومية الفعالة التي تحتاج إلى جهد متقن وعمل متواصل وممارسة واعية وكاريزما مقبولة جماهيريا، يميل إلى المشاريع ذات الهياكل الفارغة لإخفاء ضعفه، تراه يتموضع دائما في جبهة الضد بدافع النفعية وإن لم يكن هناك داع لذلك، فإن كنت يمينا كان يسارا وإن كنت يساراً كان يمينا، يكره الوجوه الحقيقية ويدمن حضور الحفلات التنكرية، مذهبه في السياسة تحسس المصائب وإرساء سفينة مصالحه على مرفأ جراحها، كالأكلة يسرح ويمرح ويتغذّى على خراجها، لا يتورع من إراقة ماء وجهه بذرائع ومبررات واهية، يراه الناس كبيرا وهو كبير لصِغر المحيطين به.

وتعال أحدّثك أكثر يا صديقي في هذا الصدد، يقول ميكافيلي صاحب كتاب الأمير: أنا لا ألوم من يتطلّع الوصول إلى السلطة لأن طبيعة التملّك راكزة في النفس البشرية، بل أراني أميل إلى الثناء على كل راغب في مدّ نفوذه، إذا كان يُحسن التصرف، ولكن كل من يُحاول امتلاك البلاد وهو جاهل بطُرق السياسة ثم يتماهى فيما تُوحيه إليه شهوة التملّك، فهو جدير بأن يُلام على تهوره لومًا عنيفا، ثم يقول: إن الذين يرتقون من عامة الشعب إلى الحكم والإمارة بحُسن الطالع لا يجدون أقل صعوبة في الارتقاء، ولكنهم يجدون أعظم المصاعب في المحافظة على ما وصلوا إليه.

كلمات بمثابة لبنات أولى في بناء جدار الحكم وكيفية تحصينه من الهدم المبكر، وتعكس أهمية أن يتمتع الراغب في الوصول إلى السلطة بالكِياسة والفِطنة وامتلاك أدوات القوة وإجادة المناورات وفنّ التفاوض والاحتواء ومتى يتقدم ومتى يتأخر، واقتناص الفرصة قبل أن تضيع، وإلا تحوّل إلى مفعول به بدلا من أن يكون فاعلا.

يُعلّمنا التاريخ أن من وقف عند مرحلة سياسية معينة ونسج على منوالها بأدوات عصرها من دون ضخ دماء جديدة وابتكار نظريات تواكب العصر وأهله تتماهى مع المتغيرات السياسية والتقلبات الاجتماعية، صدأت فكرته وتآكلت مها كانت قوية ومتوائمة مع الوجدان النفسي والفكري لمحيطه، فما يصلح لعصر لا يناسب عصرا أخر، ومهما كان إيمانك قويا بأفكارك التى نشأت وتربيت عليها فقد تفقد تأثيرها وجدواها إن لم تُحدّثها باستمرار لتواكب التغيير بلا اصطدام مع الأصول والثوابت. 

وفي السياسة قد يجرّك الجمود والركود وضعف الأدوات إلى حلبات الصراعات الصفرية أو العدمية مع خصومك فتواجه بالسيف ما يقتضي أن تواجهه بالصاروخ، وتواجه الدبابة بأسنّة رماح مكسورة، وسهام خشبية مبتورة، وتخطط بحسن النية ما يحتاج إلى حسن فطنة ودهاء سياسي، وتُقدم على الشجاعة في وقت تحتاج فيه إلى تراجع، فتظل في دائرة الضعف الاستراتيجي لا تخرج منها إلا على مقابر السياسة مباشرة.

فالفاعل السياسي لا يمارس السياسة بالتمنّى وجهل الواقع، فقد يُقبل منه أن يشذ في أحلامه الخاصة، لكن لا يقبل منه أن يشذّ في قراءة وتفسير الواقع ويشرد في مثاليات أفلاطونية، فيتهم خصمه بالغباء في حين أنه مُسيطر على مقاليد الأمور، ويُروّج لأتباعه أن فكرة خصمه إلى زوال وهو لا يملك أسباب إزالتها، أو يرى أن كل من يُخالفه على خطأ فيصمّ أذنه ولا يسمع لأحد، فيظن نفسه أكثر حكمة وتدبيرا من الأخرين وهو في الحقيقة خدع نفسه وورط أتباعه، بعد أن كشف الملعب السياسي ضعف قدراته وفشل خطته، فكل من قرأ معطيات الواقع بشكل خاطئ دفع الثمن هزيمة ساحقة سواء في ميدان الحرب أو في ملعب السياسية وحتى في صراعاته الشخصية.

السياسي الناجح يرى الواقع كما هو لا كما يتمنّى أن يراه، وإلا فلن يستطيع أن يفرض نفسه في الميدان وبالتالي لن يجد لنفسه مكانا على الطاولة، فإما أن يستجدي خصمه للجلوس ويقبل بشروطه مُرغما لأنه فاقد لأي روافع تحت الطاولة فهو بلا رصيد سياسي حقيقي، وإما أن يظل يتخبط في الأرض حيران بين الإقدام والإحجام، أو أن يقبل ببعض التنازلات المهينة أملا في البقاء.

وهناك من الساسة المنهزمين من يلجأ للهروب بدلا من المواجهة، فيكون مثله كمن أنشأ شركة في منطقة صناعية ثم جاءت شركة أخرى عملاقة تعمل بجانبه في نفس تخصصه، وبدلا من أن يواجهها بأدوات تسويقية محترفة وتطوير بنية شركته وضخ أيدى عاملة جديدة بعقول واستراتيجيات حديثه تشعل من المنافسة، أغلق الشركة ونقلها إلى مكان بعيد عن تلك الشركة العملاقة، ليحافظ على حجم إنتاجه الضعيف وفريق عمله التقليدي المتواضع واستجداء الدعم من هنا وهناك، ولو أنه طوّر من نفسه وعالج أخطائه لأصبح منافسا قويا للشركة العملاقة، فيستفيد المستهلك من التدافع التنافسي بينهما، وتظل عجلة الإنتاج تجرى بثبات من دون خسائر أو توقف فيحدث توازن في السوق، لكن غباءه الاستراتيجي أخرجه من سوق المنافسة بلا رجعه، وجعل المستهلك تحت رحمة واحتكار الشركة العملاقة.