أحمد عابدين يكتب: حقيقة محمد صلاح

ذات مصر

قبل أسابيع شارك ممثلون عن 5 دول عربية في الاحتفال بذكرى تأسيس دولة إسرائيل (النكبة)، كان من بينهم ممثلا عن السلطة المصرية التي كان من المفترض أن تحتفل بعد أسابيع من الآن بمرور 45 عام على توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ووسط كل هذه الاحتفالات الرسمية جاء احتفال شعبي جارف عكر مياههم لسنين قادمة.

فلم تكد تمر دقائق قليلة على إعلان وجود اشتباك بين جندي مصري وقوات إسرائيلية على الحدود إلا وقد انفجرت موجة ضخمة من الفرحة والفخر على حسابات المصريين والعرب، حتى قبل معرفة تفاصيل ما حدث، وكلما تكشّفت معلومة عن العملية كلما زاد الاحتفاء والفخر، وما هي الا ثوانٍ معدودة على معرفة هوية المنفذ حتى تزينت صفحات الملايين بصوره. قبل أن تطبع وتوزع وتعلق في الشوارع.

وكما سببت هذه العملية صدمة للكثير من المطبعين وأشباه المطبعين وراحوا ينسجون سيناريوهات حول حقيقة ما جرى واتهامات وظنون بحق الشهيد، سبب الاحتفاء والاحتفال بالشهيد محمد صلاح اندهاشا للدبلوماسيين والمسؤولين الدوليين والإسرائيليين واصفينه "بالعصيّ على الفهم" بعد سنوات طويلة من اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، فهل هذا الاحتفال عصيّاً على الفهم حقاً؟ 

لا ريب في أن الشعب المصري يرى دولة الاحتلال عدوا مباشرا لوطنهم رغم مرور 45 عاما على توقيع اتفاقية "السلام" هو الذكاء الفطري للشعوب، التي تعرف جيداً عدوها من صديقها، وهي نفسها الحقيقة التي تتوافق تماما مع الرؤية الإسرائيلية لمصر.

منذ 50 عامًا وإسرائيل تسعى لفصل علاقاتها مع الدول العربية كلٌ على حده، وفصل علاقاتها معهم جميعاً عن ممارساتها بحق الشعب الفلسطيني -وهو ما تطبقه بعض الأنظمة العربية -فهم يرون انه لا ما نع أبداً من أن يعانقوا الإسرائيليين في شوارع بلدانهم بينما تفتك الطائرات الإسرائيلية بأهل غزة وتدهس دباباتها أهل الضفة، ورغم تسويق هذه الكذبة جيدا، إلا أنهم أول من يدرك استحالتها، فهتافات "الموت للعرب" التي تضج بها مظاهراتهم واحتفالاتهم وملاعبهم ونواديهم تشهد على ذلك. 

أما الشعوب العربية فتعي جيداً انها جسد واحد، يتألم كل عضو فيها لألم الآخر، فالتاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة والهوية، وحتى المناكفات على أجمل طريقة لعمل الملوخية وأفضل نادي لكرة القدم، كل هذا وأضعافه جزء أصيل من ثقافة هذه الأمة، التي برغم ما تعانيه من ظلم وافقار وقمع لم ينسها حقيقتها، فعندما سقط الطفل ريان في بئرٍ بشمال المغرب كان الناس يدعون له في مساجد القاهرة واليمن والعراق، وعندما انفجر الميناء في بيروت، هبت صراخات الاستغاثة في تونس والجزائر، وكأن تلك الخطوط التي فوق الخريطة، حبر على ورق، وجاءت عملية محمد صلاح لتثبت حقيقة هذه الشعوب وزيف الأنظمة.

وخلال الطوفان الجارف من المحبة والاحتفال خرجت بعض الأصوات التي تدين العملية بدوافع احترام المعاهدة التي تقدسها إسرائيل، وهؤلاء تكذبهم دماء الجنود المصريين الخمسة الذين قتلتهم قوات الاحتلال داخل سيناء في أغسطس 2011، وعشرات الجواسيس والمؤامرات. بينما ادعى أخرون ان إسرائيل صديقة لمصر وقد ساعدتها كثيرا خاصة عام 2013، لمواجهة الرأي العام العالمي تجاه ما حدث في مصر، وهو حق يراد به باطل، فإسرائيل لم تفعل ذلك حبا في مصر، وإنما على العكس تماما. 

وهذا ما تفوهت به قياداتهم العسكرية آنذاك، فبكل وضوح قال رئيس هيئة أركان الجيش الأسبق دان حالوتس وقتها "أهم ما حدث حتى الآن هو تحييد مصر وإضعاف قواتها عبر شغلها في الواقع السياسي الداخلي لسنين طويلة في المستقبل"، بينما قال الجنرال رؤفين بيدهتسور، رئيس هيئة أركان سلاح الجو الإسرائيلي سابقاً "حتى في أكثر الأحلام وردية لم يكن لإسرائيل ان تتوقع حدوث هذه النتيجة، فاندفاع الجيوش العربية نحو السياسة على هذا النحو غير المسبوق يعني عدم إحداث أي تغيير على موازين القوى القائم بيننا وبين العرب في المستقبل ولفترة طويلة"

باختصار، فقد كان الهدف الأسمى للتحركات الإسرائيلية توريط الجيوش العربية في الشأن السياسي، واشغالها بالشأن الاقتصادي، ومن ثم إضعافها.

ورغم كل ذلك، فإنني اعتقد بأن الشعوب العربية، وفي مقدمتهم الشعب المصري، يقدسون السلام بل ويتمنوه، ولكن السلام الحقيقي القائم على عودة الحقوق إلى أهلها كاملة، وفي مقدمتهم أشقائهم في فلسطين، أما الأكاذيب التي تتناوبها الأنظمة، وعلى رأسها كذبة انهم يستطيعون فصل مصر عن جسدها العربي، فالشعوب أدرى الناس بها ولا مكان لها في وجدانهم ولا عقيدتهم، والدعم المتبادل بين حكومة احتلال وأنظمة دكتاتورية قمعية، فلا يعني الشعوب في شيء، سوى مزيد من الكره والاحتقار لطرفين أحدهم مجرم والثاني أجرم، وتلك هي حقيقة ما جرى في يوم الثالث من يونيو عام 2023، والذي ستتذكره الشعوب طويلاً.