د. هشام الحمامي: السور الكبير بين (الإصلاحيين) والناس

ذات مصر

على مدى التاريخ الإسلامي كله، كان الإسلام دائما هو الحاضر في قلب كل المعارك التي خاضتها الأمة في سلمها و حربها ، في بناءها وإعادة بناءها، في وحدتها واختلافها ..وطبيعي أن يكون الإسلام كذلك ، فهو الذى أوجد العرب على أرض الدنيا والتاريخ كـ (أمة) بكل مكونات الأمة الكاملة ..ليس هذا فقط بل وترك بوابات هذه الأمة مفتوحة في كل وقت لمن أراد أن يكون فيها ومنها .. وشعاره العالم وطني والناس أجمعون إخوتي(دين/إنسانية) وفعل الخير هو ديني.

وفى هذا البلد الطيب، كان الأزهر الشريف دائما هو القيادة الطبيعية للأمة على كل مستويات القيادة والتوجيه والريادة .. استمدادا من دور الإسلام في طبيعته وفى واقع الناس كدين وحياة .. يلوذ به الناس ويحتمون، وكذلك في العالم الإسلامي شرقه وغربه .. حيث منابع قوة الأمة وتفاعلات الحركة فيها، ووصلا دائما للعلاقة بين الأمة ومصدر قوتها، وكان الإسلام في كل وقت وحين هو المرجعية العليا للامة والميزان الأكبر لها.

***

ثم تطور الأمر إلى ما نعلم جميعًا من أنواع الاحتلال الأوروبي لعالم الإسلام ..  وكان الإسلام هو الحصن الحصين ميدانيًا وفكريًا وأخلاقيًا لشعوب وأعراق الأمة، وهو ما ساهم كثيرًا في حفظ الذات الحضارية القومية لها، ولولاه لانطمست معالم الأمة وغابت عراقتها ..والمغرب العربي نموذجا لمواجهة وصد ( المسخ ) الفرنسي لوجه الأمة في جناحها الغربي ..   

الغزو الأوروبي حتى وان كان في جوهرة مصالح وسيطرة، لكنه كان مضطرا لأن يلامس الفكرة الدينية التي تلخص تاريخ هذه المنطقة من العالم، وبالتالي فكان يعمل دائما بالحيلة والمواجهة على ضرب هذه الفكرة في السويداء كما يقولون. 

***

خرج الاحتلال وجاءت الدولة الوطنية.. التي بدا لها أن الحكم والدولة والتنمية والعمران فى غياب (الفكرة الدينية).. أفضل وأسهل.. وسواء كان ذلك أحد شروط الاحتلال وقت خروجه، أو كان غضاضة ذاتية لدى القادمون الجدد .. خاصة أن أغلبهم كانوا شبابا وكانوا من المؤسسة العسكرية (في العراق وسوريا ومصر ..) وساعدهم على ذلك أيضا أصحاب (الفكرة الدينية) ودعاتها أنفسهم ، سواء الرسميين وغير الرسميين، فلم يكونوا على مستوى الشعور الكامل بالخطر القادم ولا بالمسئولية التي تفرضها اللحظة. 

***

الرسميون تحولوا إلى موظفين تقليديين بالحكومة مع كل الحمولة التي تحملها جملة (موظف تقليدي) وكانت قوة الدولة في ذلك باطشة، بدأ من نزع الاستقلال المالي عنهم، وانتهاء بإشاعة جو الترغيب والترهيب.

المتطوعون أو الدعاة المصلحون ابتلعتهم (التنظيمات) في كهفها المظلم .. فتاهوا فيها .. واستوت عندهم الوسائل والغايات وانخرطوا في جدل التبريرات والتفسيرات والتنظيرات .. فخسر المجتمع كثير الكثير من جهادهم وجهدهم المدني والإصلاحي في مجالات التنمية والتعليم والإصلاح الداخلي ذو الطابع البناء .. وتميزت اختياراتهم بقدر كبير من سوء التقدير، خاصة في المواقف المفصلية والتاريخية فى حركة الدولة والمجتمع.

***

وتكونت حالة من التباعد بين (التدين الرشيد الواعي) وبين (المجتمع)، فغاب الإسلام العظيم عن تأثيره العميق فى النفس والضمير، وكان الخاسر الكبير هو (الأخلاق)..وبالتالي( الوطن) وكما يقول شوقى رحمه الله (ت/1932م) رحمه الله:  إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا .. 

وسادت سلوكيات التسيب والانحراف واللامبالاة والأنانية وتكاثرت وترعرعت على نحو خطير ومنذر و تعملق الفساد أيضا على نحو غير مألوف في مجتمعات كانت تتفاخر في أبسط أديباتها السلوكية (باليد النظيفة).

***

الكواكبي ( ت/1902م) رحمه الله أغنانا عن الحديث في تفسير الدور التقليدي للسلطة فيما كان وصار .. وقد أفاض في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) شارحا تفاصيل الاستبداد :محطم الآمال ومدمر كل جمال ، ونوع الناس الذى تفضلهم السلطة فى حكمها وتحكمها .. 

وحين يطرق الرقي باب أمة من الأمم يسأل : أهنا فكر حر ؟ فإن وجد دخل وإلا مضى كما قال المفكر الأمريكي توماس بين(ت/1809م) أحد أهم فلاسفة التنوير في القرن الـ 19 .

***

لكن الحساب هنا وهو حساب صدوق وتعاتب ودود مع أهل (الفكرة الدينية) التي هي ركيزة الإصلاح والنهوض في الشرق كله، وعفوا لتكرار المعنى الذى كاد يغيب من طول مألوف العادة والبلادة .. 

وما نراه من حالة تطوافك بالآفاق بقبضة من هواء، وخيبة من رجاء.. وهى الحالة التي طال مطالها وتكررت الى الحد الذى أغرى البعض بإجراء تخريج تاريخي وشرعي لها ..فانتشرت كلمة( المحنة) أصبح لها منظرون ومحاضرون ..وهى للطرافة المعادل الموضوعي لكلمة( النكسة) اذا جازت المقاربة .. 

فالحيرة احتارت والدهشة اندهشت عن طبيعة هذا الإنسان الذي يعشق الجدل والتنظير والتبرير(جدلية إبليس الشهيرة في المقارنة بين الطين والنار!!) . 

***

وإن أنسى فلن أنس أبدا ..جملة الأستاذ هيكل رحمه الله (ت/2916م) في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة في خريف 1990م حين قال :(لا نهوض للشرق في غياب الإسلام) واذا بالقاعة تضج بالتصفيق  الذى أستمر طويلا الى حد أن أذهل الأستاذ هيكل نفسه .. 

المشهد كان كافيا بالطبع للتدليل على حالة الشباب الذين كانوا يملؤون القاعة، هذا الشباب وأضعاف أضعافه في نجوع البلد الطيب وقراه ومدنه، و لولا أن حسابات بالغة الخطأ أخذتهم بعيدا عن الغاية والهدف، لكان له دور بالغ الأهمية في بناء المجتمع .. والدولة أيضا، وأنت تتحدث عن زمن لا يقل عن ثلاثين عاما من وقتها .. وبكل ما يمثله ذلك الزمن من كل الاحتمالات الممكنة.

***

وأضيف هنا من الشعر بيتا حول هذا المعنى، فحين كان يلح بعض الأطهار داخل التيارات الدينية السياسية بالتفرغ للعمل الإصلاحي العميق الصلب والابتعاد عن تلك المناوشات الفارغة مع (الدولة الحديثة) في انتخابات هنا وانتخابات هناك .. 

كان أصحاب المصالح الخفية والمستفيدين الكبار من هذه(اللعبة الخبيثة) وهم موجودون في كل التنظيمات على فكرة .. كانوا يحاربون بقوة هذه الأفكار بل ويضهدوا أصحابها ويهددونهم بالضر والأذى والإقصاء.

***

لكن ما هو هذا البيت  من الشعر ؟ 

هل يتذكر أحد الشعار الذى ساد في أوائل الخمسينيات حين لاح في الأفق صراع دامي بين الجمهورية العسكرية الناشئة وبين التيار الإصلاحي القديم ؟ .. شعار (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم .. تقم على أرضكم)  .. وكان واضحا أن من اطلق هذه الشعار يوجهه إلى أشخاص يقصدها بالذات.. سواء من هذا التيار أو ذاك .. والشعار هنا رائع وتاريخي ومثبوت .. 

بل ومنطقي أيضا والدين أصلا من أقوى وظائفه أن يكون(سلطة أخلاقية) اتساعا وتكاملا وعمقا .. تقوم بمراقبة الدولة و تساهم في منعها من التسلط بشكل أو بأخر ولا يقل عن ذلك وضوحا انه حيثما قامت تلك الدولة في قلوب الناس ، 

ومهما يكن مقدارها وحجمها في تلك ( القلوب) فان الواقع على الأرض ، سيتجدد ويلم به ما ألم بتلك القلوب وأصحاب تلك القلوب .. !             

لكنها الدنيا .. وأقولها ثانية .. لكنها الدنيا .. ليقول من يقول: ما عجبت من أحدوثة إلا ورأيت بعدها أعجوبة...

***

وكنت أتصور أن حديث الرسول (ألا من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربى)، وحديث (خلوا بينى وبين الناس).. قد علت وجلجلت فى رؤوس الإصلاحيين ..بعد طول التجارب والتجريب والاحتكاك والتحكيك و الصدام والتصديم ..!!! 

وقد كاد أن يزول المانع العتيد والسور الكبير بينهم وبين الناس.. فيتجهون إلى هدفهم الأسمى (الإصلاح) وفى أذهانهم وأفئدتهم دومًا أن الأفكار لها من قوة النفاذ والزحف والانتشار ما هو أقوى من الجيوش نفسها.. 

فيقوموا باحتضان دنيا الناس بخفقات الإسلام التربوية والروحية وهدية الرشيد .. للخروج من ظلمات التخلف إلى نور الوعى بالنفس والحياة (نور الوحى في قلبي.. وتجربة العقل فى رأسي) .. في تجدد دائب، وتدفق لا ينقطع لنهر الحياة الصحيحة السنوية. 

وكما يقول المؤرخون أن إصلاح فساد الناس، خير وأجدى ألف مرة من إصلاح فساد الدولة.

***

أعلم أن النجومية السياسية والاجتماعية لها إغراءاتها اللاهثة .. فأن تتحول إلى مركز تدور حوله أفلاك الآخرين  شهوة شهوانية شهية للغاية.. وهو من ألذ وأمتع أعطيات السياسة.. 

لكن البعض للأمانة يحاول اجتياح  تلك (الأنا ) القابعة في أعماق شهواته والاقتراب أكثر من فهم تناقضاتها .. وتصويبها وتصحيح بوصلتها ... وكلنا ذلك الرجل .

ليبقى دائما الإسلام الذى ندين به أمام الله .. يعدنا وعدا صادقا بما هو أعلى وأروع.. فنسعى ان نكون .. (ورحمة ربك خير مما يجمعون..).