يحيى حسين عبد الهادي يكتب: بَصْقَةُ التوتونجى

ذات مصر

لم يُزعجني قرار البرلمان بحذف اسم (ناصر) من على الأكاديمية العسكرية الشهيرة بالدُقِّي، فالرَجُلُ أكبرُ كثيراً من لافتةٍ على مبنى أو شارع .. وهُمَا (القرار والبرلمان) مجرد قَطرتين في بحرٍ حالك السواد شديد العَطَن يُطبِقُ على أنفاسنا حالياً ويحاصرنا من كل اتجاه .. ويخجل المرء من تناول مثل هذه التصرفات الصغيرة في خِضَّمِ الكوارث والنوازل الكبرى المُوجِعة التى لم نَعُدْ نلاحقها .. حتى صرنا من شِدَّةِ الأوجاع لا نتوجع .. أو كما يقول المتنبي: (فصِرتُ إذا أصابتني سهامٌ .. تَكَسَّرَت النِصالُ على النصالِ).
لكن يبدو أن هناك في مراكز اتخاذ القرار من يعتقد بقدرة اللافتات على تغيير الحقائق .. فقبل ذلك حُذِفَ اسم العابدة الشهيرة (رابعة العدوية) من على الميدان الشهير في مدينة نصر، في محاولةٍ بائسةٍ لِمَحوِ ذكرى سَوْءَةٍ دموية ستظل تلاحق فاعليها حتى إذا أُلغِيَ الميدان نفسه وأُزيل من على وجه الأرض .. ولا زال الناس يطلقون الاسم القديم على الميدان بعد سنواتٍ من تغييره.
وقد نُزِعَ اسمُ ناصر نفسه من قبل من على البحيرة الشهيرة في الأوراق الرسمية المصرية، لكنه ظل على ألسنة الناس والخرائط العالمية لم يتغير .. فأنت إذا قُلْتَ (بحيرة السد) لا يعرف أحدٌ عن أيِّ سَدٍّ تتحدث، فالسدود كثيرةٌ بدءاً من سد النهضة إلى ما شاء الله .. وكُلُّها تحجز خلفها بحيراتٍ .. لكن (بحيرة ناصر) تعني كياناً محدداً نَتَجَ عن معركةٍ انتصرت فيها إرادة الشعب المصري وصار منذ أكثر من نصف قرنٍ صمام خيرٍ يحجب عن المصريين غوائل الفيضان والقحط.
ذَكَّرَتني هذه التصرفات الصغيرة التي لا ترفع من قَدْرِ الفاعل ولا تؤثِّرُ في مكانة المفعول به، ببصقة التوتونجي على جَدِّنا العظيم أحمد عرابي .. أما التوتونجى فهو ذلك الخادم المسؤول عن علبة دخان الخديوى (لَفَّاً ورَصَّاً وتقديماً)، وكان يحظى بمكانةٍ فى القصر مشابهةٍ لمكانة راعى الكلب فى فيلم غزل البنات لنجيب الريحانى .. أما أحمد عرابى، فهو ذلك الفلاح المصرى الذى وجد فيه المصريون تجسيداً لآمالهم في التحرر من رِبقة استبداد الخديوى وتَدّخُل الأجانب .. فلما انهزم جيشه بفعل الخيانة أو عدم التكافؤ أو قِلّة الكفاءة (أو كل ذلك معاً) دخل الإنجليز القاهرة وأعادوا الخديوي توفيق إلى قصره واعتُقِل عرابي لحين محاكمته .. في هذه الأثناء، توسَّلَ التوتونجى (كان اسمه إبراهيم أغا) إلى سيده الخديوى أن يأذن له بالدخول إلى عرابى في مَحبَسه ليبصق عليه .. فأذن له الخديوى .. فَفَعَل.
ما رَفَعَت البصقةُ من شأن التوتونجى ولا حَطّت من قدْر عرابى .. ولكن الفؤاد يتمزق وهو يتخَّيَل مشاعر الأسد الأسير إذا تطاول عليه فأر .. مات إبراهيم أغا منذ قرنٍ ونصف بعد أن أقطعه الخديوى قطعة الأرض المُسمّاة حالياً بحدائق حلوان ثمناً للبصقة(!) .. ومات الخديوي .. وجَفَّتْ البصقةُ .. وبقي عرابي  في ذاكرة التاريخ والوطن.
يندهش المَرءُ من تفاهة المسؤولٍ المنشغل بمطاردة لافتةٍ على ميدانٍ أو مبنى، بدلاً من أن ينصرف اهتمامه لإيجاد حلولٍ للكوارث الكبرى المُحدِقة بالوطن.
قرأتُ لبعض خصوم عبد الناصر أنه فعل مثل ذلك (أَمَا آن لهذه المكايدات المتبادلة أن تتوقف مؤقتاً حتى نخرج من المصيبة التي تجمعنا؟) .. كانت للرجل أخطاؤه بلا شك لكنه لم ينزلق لمثل هذه التصرفات الصغيرة .. فقد كان كبيراً حتى في أخطائه (كان العظيم المَجدَ والأخطاءَ، كما قال محمد مهدي الجواهري) .. وقد عشنا أيامه وكانت مدن القناة (ولا زالت) مّسَّماةً بأسماء الحكام من أسرة محمد علي (ومنهم الخديوي الخائن) ولَم يتطرق أحدٌ إلى تغيير أسمائها .. أو إلى إزالة تمثال إبراهيم باشا من موقعه المميز في ميدان الأوبرا القديمة.
التوتونجية موجودون في كل العصور (بما في ذلك عصر عبد الناصر نفسه) .. فوجودهم من سُنَنِ الحياة وعوامل التوازن البيئي كصراصير البالوعات .. الصغار موجودون دائماً .. لكن الكوارث تبدأ عندما يجلسون في مقاعد الكِبار.
يقول الفقهاءُ إن بَوْلَ الصِغار على الثوب النظيف لا يستلزم غَسْلَه كاملاً للتطهر من نجاسته .. يكفي أن يُنضَحَ (أي يُرَّش بالماء الخفيف) .. فلا تنزعجوا من هذه التصرفات النجسة في حق رموز الوطن .. هَوِّنوا عليكم .. اعتبروها بَوْلَةَ صغير .. وهي بالفعل كذلك .. تثير القرف ولكنها لا تلوث مَن وقعت عليه .. انضحوها بالماء.