د. هشام الحمامي يكتب: لحظة الفريق (مدكور أبو العز)..الشجرة والثمر المٌر

ذات مصر

يصر أصدقاؤنا اليساريون والقوميون أن تكون نقاشاتهم حول الموضوعات الوطنية والقومية الكبرى على طريقة هذه المنضدة مستديرة ؟..(لا) ..هذه المنضدة مصنوعة من الخشب !!

هم يحبون الجدل والنقاش المفتوح على طريقة (هسهسة اللغة) كما قال المفكر الفرنسى رولان باروت(ت/1980م) في كتابه المعروف بنفس العنوان ..سيكون هناك ضجيجا دائما ،لكن لن تكون هناك حقيقة أبدا.. 

كما أن عددا كبيرا منهم يعتبرون أن مجرد التناول لأزمات مصر الحديثة انطلاقا من التأسيس لها في الخمسينات والستينيات .. 

مجرد التناول فقط .. يحيلك فورا إلى موقف الصهيونية من نقاشات الهولوكوست والتي قد تودى بحياتك المادية و المعنوية كما حدث مع المفكر الكبير روجيه جارودي(ت/2012م) رحمه الله في كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) رغم ان الأستاذ هيكل رحمه الله (ت/2016م) هو من كتب مقدمة ترجمته للعربية التي صدرت عن دار الشروق.

***

الحاصل إننا نحتاج فعلا إلى كتابا شبيها بكتاب جارودى عن الأساطير التي أسست لتلك الحقبة الأليمة التي ألقت بنا بعيدا بعيدا بعيدا عن حركة الحياة والتاريخ .. إنها الشجرة التي أثمرت ولازالت تثمر كل الثمار المُرة ..

والأمر يحتاج بالفعل الى نظر عميق بعيدا عن تلك (المضامين النفسية) التي في حقيقتها دفاع عن النفس وعن (وهم)عريض عاشه أصحابه بكل إخلاص! ولن يسمح لأحد، أيا من كان بالاقتراب من هذا الوهم السعيد. 

ومن يهتم بقراءة الأدب الذى هو بالفعل (التاريخ الخاص) للشعوب، سيتذكر ماذا فعل الناس بالدكتور(ستوكمان) في مسرحية (عدو الشعب) للكاتب النرويجي الشهير هنريك إبسن (ت/1906م)..

وبدلا من اختصار معناها  في الجملة الشهيرة (لا تفكر عندما يتعارض التفكير مع مصالحك).. الأمر لدينا ..(لا تفكر عندما يتعارض التفكير مع أوهامك) !.

***

وفى هذه المقاربة سنرى كيف ان النفق مفتوح على امتداده بكل ظلامه وبكل عفنه، ليؤكد ما سبق عن الشجرة وثمارها المٌرة ..سيمر النفق على الرؤساء الثلاثة مبارك والسادات وناصر رحمهم الله . 

تقول الحكاية أنه في عام 1964صدر قرار جمهوري بإبعاد الفريق مدكور أبو العز من منصبة كقائد الكلية الجوية، المكان الذى عمل فيه وله وبه 8 سنوات كاملة ..

وتخرج على يديه عشرات الطيارين الذين كانوا يدينون له بما يعرف بـ(أبوة القائد العظيم) مثله في ذلك مثل كل الأبطال الكبار ، وسيكون له من التأثير الروحي والنفسي على طلابه ما كانوا يحملونه معهم في قلوبهم و وعيهم بعد تخرجهم..

ويكفى أن نعرف من المهندس حسب الله الكفراوي (ت/2021م) تلك الحكاية البسيطة لندرك كم كان الرجل حاضرا بعمق في وعى وأخلاق تلاميذه بالكلية الجوية.. وكان رحمه الله صديقا قريبا للفريق أبو العز.       

 سنعرف منه أن والد الرائد حسنى مبارك (أركان حرب الكلية الجوية وقتها) جاء لزيارته في الكلية!                                       

  ورفض حسنى مبارك مقابلته، وانتشر الخبر في الكلية، فما كان من الفريق أبو العز إلا استدعائه إلى مكتبه، وتوبيخه على هذا الموقف غير الأخلاقي، الذي قد يؤثر سلبا في أخلاقيات الطلاب وصغار الضباط.

صفة (أبوة القائد العظيم) كانت كفيلة بإبعاده عن قيادة القوات الجوية، بل وإنهاء حياته العسكرية بأكملها !! وتعيينه محافظا لأسوان .. وكانت صدمة عاتية للرجل.

****

كان المناخ العام في الستينيات ملئ بالثقوب السوداء التى تبتلع فورا من يلمع في سماء الوطن ولأن الخسيس يثار لخسته من شرف الشريف، كما قال عمنا شكسبير، فلم يحتمل قائد الجيش (المشير عامر ت/1967م) وصديقه قائد القوات الجوية (الفريق صدقي محمود ت/1984م) وجود نجما كبيرا بحجم (مدكور ابو العز) .. وبهذا الحجم من التأثير والحضور.                                                                                               

 فاتفق الاثنان على إبعاده من عرينه (الكلية الجوية) والسبب بالغ السهولة، المخاوف الأمنية.. (مدكور ذو شعبية واسعة، ويتخرج من تحت يديه أفواج من الطيارين، ما قد يشكل خطرا على الزعيم نفسه) .

الفريق مدكور أبو العز

كان النظام السياسي وقتها يحمل مخاوفه من داخله.. كما يقولون .. فالناس العادية قد تم تدجينها تدجينا دجونا و اختفت التنظيمات الحزبية والاجتماعية والدينية.. فالجميع يجب أن يذوبوا في شخص الزعيم .. ذوبان السكر في الفنجان .. وقد ذابوا ..!!

ما حدث مع مدكور أبو العز ..وهو نفسه أيضا ما حدث مع فخر العسكرية المصرية في كل العصور(عبد المنعم رياض)الذى تم إبعاده إلى الأردن(1964م) ..وسيأتي الاثنان بعد (هزيمة كل يوم 5 يونيو) ليقيما بناء جديدا بعد أن هوى البناء القديم أنقاضا فوق أنقاض .. 

وستغيب أهم حقائق اللحظة .. وهى كيف يبعد مثلهما؟ 

والإجابة بسيطة، والسير بالإجابة إلى المصب الطبيعي للمعرفة أبسط وأبسط .. لكن هذا لم يحدث ولن يحدث ..! ولك أن تتذكر الشجرة .. وثمار الشجرة ..!!                                                                                                      

سيصعد الشهيد عبد المنعم رياض(رئيس الأركان) حيا عند ربه ، من أخر نقطة تماس مع العدو الإسرائيلي يوم 9مارس 1969م ..                                                                                                   

 وسيٌبعد الفريق مدكور ابو العز من قيادة القوات الجوية بعد 5شهور من عودته إلى الخدمة وتوليه للمسؤولية! (10/6 – 2/11 /1967م)..             

 كيف كان ذلك؟ والأخطر: لماذا كان ذلك؟                                                          

  الإجابة عن السؤال الثانى بسيطة للغاية ..فقد تم إبعاده لنفس السبب الذى أبعد به من قيادة الكلية الجوية.     

****

تقول الحكاية أنه بعد الهزيمة وضرب سلاح الطيران على الأرض، أرسل الزعيم الخالد طائرة خاصة إلى أسوان في10/6 لتحضر الفريق مدكور على الفور وتسليمه قيادة القوات الجوية ..       

وفى (أربعين الهزيمة) قام الطيران المصري بأولى غاراته، فضرب مقرات قيادة الجيش الإسرائيلي في سيناء واشتبك مع الطيران الإسرائيلي وعاد سالما ..                                                  

  انتشر الخبر بين المصريين وسط فرحة عارمة.. وانتشر اسم مدكور أبو العز على ألسنة الناس وزادت شعبيته بشكل رهيب.. لكن هذا لم يكن كل شىء.                                                                         

***

فقد حدث أنه في إحدي زياراته للقواعد الجوية أن قام بزيارة لقاعدة طنطا الجوية وكان ذلك في يوم جمعة وذهب للصلاة بمسجد السيد البدوي.. 

وإذا بالخبر ينتشر بين النا، فتهب جموع الشعب في طنطا إليه .. حتي أنه وصل إلي سيارته بصعوبة..  وقام الناس برفع سيارته من فوق الأرض، ونقل هذا المشهد بالكامل للزعيم الخالد.. كما ذكر موقع (مجموعة 73 مؤرخون) .                                                                   

وهنا سيقف التاريخ وقفته الحائرة .. الساخرة .. الماكرة .. ليقول لنا أن الزعيم الخالد قرر عزله فورا.. !! نعم. 

كان الالتفاف الشعبى حول(البطل) ليس فقط تعبيرا عن الفرحة بما فعلته القوات الجوية في أربعين الهزيمة ولكنه كان يشير إلى أن الشعب قد وجد (القائد الحقيقى) الذى سيمحو العار.. وهو ما قد يغير قواعد اللعبة التى استمر بها القائد المهزوم قائدا..                           

***

بعد عزله المريب الغادر.. اعتزل الرجل كل شيء ليقيم في قريته بمحافظة دمياط .. حتى جاءت السبعينيات برياح الأكاذيب لتكمل للمصريين ضلالات التضليل المستمر (الشجرة وثمارها المٌرة) وكان منها البرلمان وسلطة البرلمان في الرقابة والمحاسبة .. 

ليكون الرجل نائبا عن دائرته في برلمان 1977م الشهير، والذى سارع الرئيس السادات إلى حله.. حين تصور بعض النواب أن الموضوع بجد، وليس كده وكده ..!! 

لتختلط ظلال الرؤساء الثلاث على صفحة وجه الرجل، وتعكس لنا كل المأساة في كل وقت .. إنها الشجرة وإنها لثمارها المرة ..

وسينتقل (مدكور أبو العز) إلى رحمة ربه عن عمر يناهز الـ 88 عاما(2006م) وهو يصلي الفجر في ليلة من ليالي رمضان الأخيرة، بعد أن فرغ من صلاته وانتقل وهو يرفع كفيه بالدعاء الى ربه الكريم الأكرم.

***

مثل البرق الساطع في السماء يظهر البطل في حياة أمته.. و(الأمم الكبيرة) تحتفى بأبطالها وتخلد ذكرهم وتجعلهم نجوما، يهتدى بها ،فيكتب عنهم الشعراء والأدباء وتبدع الدراما من قصص حياتهم فنا يتحاكى به الشباب والبنات ويتمثلوه في حياتهم ..                                                                                     

ويصبح تاريخ البطل تاريخ شخص فى تاريخ أمة، وتاريخ أمة  في سيرة شخص ساهم فى بناء تلك الأمة..

 لكن هذا لم يحدث مع من هو مثل الفريق (مدكور أبو العز)..فيجب طى مثل هذه الصفحات من كتاب المجد.. وكتابة صفحات أخرى لا علاقة لها بالماضى ولا تتصل بالمستقبل .!